أ.عبدالله هاشم السياني
القيام هو الركن الثالث في هذه العبادة الإلهية العظيمة وذكر الله الأكبر في أرضه الذي يثني فيه العبد على ربه ويقف فيه بين يدي خالقه وفي مكان عبادته وذلك بعد أن استجاب لنداء دعوته في ذلك الوقت المحدد واتجه لتطهير جوارحه وقلبه وجميع حواسه استعداداً للدخول في هذه اللحظات المهيبة والشرف العظيم، ثم دعا ربه بكلمات الإقامة التي حدد فيها جميع معاني الألوهية والعظمة والإيمان والاستجابة والترحيب والشوق الذي جاء بها الأذان ليخلص إلى التوجه لخالقه فيعلن صدق توجهه وإخلاصه وخلوص أفعاله وأذكاره ومجمل حياته لله رب العالمين، ليخاطب بعد ذلك بالنية التي يعلنها بقلبه ويناجي فيها ربه الخبير اللطيف بعزمه على لقائه والثناء عليه فيحدد نوع عبادته الداخل فيها وبذلك يدخل في الركن الأول من هذه العبادة الإلهية العظيمة لينتقل إلى الركن الثاني فيها (تكبيرة الإحرام) فيقول معلناً بصوته لأهل سماواته وأرضه وجميع خلقه إن الله أعظم وأكبر وأنه المتفرد بتلك العظمة في هذا الوجود المنظور وغير المنظور، بل إنه أعظم من كل تعظيم أو تصور للعظمة التي قد تخطر على قلب أو فكر بشر أو مخلوق.
الركن الثالث
القيام
وبعدها يدخل في الركن الثالث الذي نحن الآن بصدد ذكره والتعرض له والمعروف بركن القيام.
فما هي حقيقة القيام ومنزلته في هذه العبادة الإلهية العظيمة؟ وهل ندرك نحن من قمنا عشرات المرات بين يدي العليم القدير العلي العظيم مرات ومرات متكررة وفي أوقات متعددة ومختلفة في اليوم الواحد ماذا يعني وقوفنا ذلك الذي سماه الحق جل وعلا قياماً بين يديه؟ وهل نفرق بين القيام بين يدي الخالق في الصلاة والقيام بين يدي المخلوقين في أوقاتنا وأوضاعنا المختلفة ؟ وهل نعي فعلاً معنى القيام فضلاً عن حقيقته؟ بل هل نعطي القيام في مقام مالك السماوات والأرض وخالقها نفس أهمية القيام في مقام مخلوق لجأنا إليه أو احتجنا إلى معونته واستنجدنا به ، أو مخلوق أردنا تقديره والتعبير عن احترامه، أو زعيم أو ملك أو قائد قمنا بين يديه اعترافاً له بمكانته وسلطانه وقوته وجاهه؟
إن القيام من قبل المخلوق للخالق بأمر منه وفي الوقت الذي أمر به وحدده بقصد الثناء عليه وتعظيمه والاعتراف بألوهيته وربوبيته والعبودية له ومناجاته ومخاطبته ودعائه والتذلل له والإعلان عن كما الخضوع لسلطانه والاعتراف بملكه وملكيته لهو قيام يستحق الإجلال والتأمل والتفكر في دلالاته وأبعاده ومعانيه وغاياته ومقاصده..
فما هو القيام وما هي حقيقته؟
القيام كما أسلفنا هو الركن الثالث في الصلاة “ذكر الله الأكبر” الذي أمرنا به الحق جل وعلا إلا أن الناس لا يدركون معنى القيام لغة ولا يفرقون بينه وبين معنى الوقوف المعتاد لديهم ، بل إن الكثير منا المصلون لا يعرفون أن القيام كفعل من أفعال الصلاة هو أحد أركانها ويتصورون أن قراءة الفاتحة كذكر هي الركن الواجب في الصلاة عند القيام في الصلاة ولا يدركون أنهم متعبدون بالقيام كفعل مستقل بذاته وركن من أركانها وأن قيامهم بتلك الهيئة التي اعتادوها جزء من تعظيم الخالق والثناء عليه إن لم يكن ذلك القيام هو عمود تلك العبادة وصلبها ومرتكز بقية أركانها وأصلها.
إن إعادة نظرنا لمعنى القيام وإدراك حقيقته هو إعادة لفهمنا لهذه العبادة وإدراك لأبعاد وأسرار أفعالنا فيها ومراد الخالق جل وعلا منها في كل أركانها وصورتها العامة، ولعل التأمل والتدبر في أفعال الصلاة ومنها القيام قد يسوق المحظوظين من عباده إلى منازل الخاشعين وأهل الإحسان فيها والوصول إليها، ففضّل الله على عباده كبير ورحمته واسعة ومفتاح ذلك يكون بالرجوع إلى معرفة معنى القيام لغة لمعرفة طبيعة هذا الفعل وإدراك دلالاته الحسية والعبادية وأسراره الإلهية.
جاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم الذي اعتمدت عليه كثيراً في كتابي هذا أن قام الرجل تعني: “نهض منتصباً دون عوج أو التواء، وقام الماء: وقف محبوساً لا يجد منفذاً، ومنه قام الرجل إذا توقف عن السير، وقام إلى الشيء: عزم عليه أو أسرع إلى تناوله، وقام على الأمر: استمر في طلبه، وقام الشيء: تحقق أو وقع. والقيام اسم لما يقوم به الشيء: أي يبقى متماسكاً محتفظاً بكيانه، وقيام هو مصدر قام، وجاء في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا) أي قائمين، وفي قوله تعالى: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى) أي عزموا على أدائها، وفي قوله تعالى في سورة الكهف: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي وقفوا أمام ملكهم، وفي قوله تعالى في سورة الكهف أيضاً: (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ) أي توقفوا عن السير، وفي قوله تعالى في سورة المزمل: (قُمِ اللَّيْلَ) أي قف بين يدي الله مصلياً أو داعياً الله، وفي قوله تعالى: (وَقُومُواْ لِلّهِ قانتين) أي قفوا بين يدي الله داعين أو مصلين خاشعين، وفي قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)، أي واقف أو مشمر لبدء الصلاة، وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا) “أي ناهضاً منتصباً”.
[الهامش: انظر كتاب معجم ألفاظ القرآن الكريم]
وبالتأمل والتدبر في تلك المعاني وربط بعضها ببعض يمكن الخروج بتعريف للقيام بأنه “نهوض الرجل منتصباً دون عوج ولا التواء، متوقفاً في مكانه ساكناً لا يتحرك ويتحقق منه القيام بالعزم عليه لغاية في نفسه ولقصدٍ قصده، ثم باستمراره في طلب ودعاء من يقف بين يديه”. وعليه فالقيام له هيئة حسية وعزم ودافع معنوي ووظيفة محددة مرتبطة به، فإذا اختلت الهيئة الحسية كأن ينهض الرجل ولكن لا يكون جسمه منتصباً فلا يسمى هذا قياماً أو أن ينهض الرجل ويكون جسمه منتصباً وهو واقف في مكانه ولكن بدون داع أو سبب أي لا يعرف لماذا قام فكذلك لا يسمى قياماً أو ينهض الرجل وجسمه منتصباً وهو واقف في مكانه ويعرف لماذا قام ثم يكون قيامه خالٍ من أي طلب “أي سبب” أو دعاء فإن ذلك لا يكون قياماً أيضاً.. وعلى ذلك فلا يكون قياماً تاماً وكاملاً إلا إذا كان مشتملاً على جميع معانيه، وهذا ينطبق على معنى القيام الحسي المتعارف عليه بين المخلوقين والذي تتعدد بواعثه وأسبابه ووظائفه، والذي تكتمل شروط القيام فيه وتتعدد بواعثه وأسبابه ووظائفه بحسب الحالة والعلاقة التي تربط بين القائم ومن يقوم له، وكذا مراد القائم من قيامه بين يدي ذلك الشخص سواء أراد الاحترام أو التقدير أو التعظيم أو الندم والاعتذار والتذلل والتواضع، أما القيام بين يدي الخالق من قبل المخلوق في هذه العبادة الإلهية العظيمة فليس له من هذا القيام الذي تحدثنا عنه إلا القالب والشكل الدنيوي والوظيفة المتعارف عليها بين الناس في علاقاتهم مع بعضهم البعض. وإن كان ذلك يجعلنا نعرف دلالة القيام ومتى يكون تاماً وكاملاً ويدفعنا للتأمل والتفكير في طبيعة القيام الذي أمرنا به الحق جل وعلا في هذه العبادة الإلهية ومتى يكون تاماً وكاملاً وفق مراد الخالق جل وعلا؟ وكيف نستشعر معنى قيامنا أمام الخالق وبين يديه؟ وكيف يصبح قيامنا ثناءاً وتعظيماً وتذللاً ودعاءاً وعبادة وطاعة؟ وهناك حقائق ومعاني متصلة بالقيام بين يدي الخالق في هذه العبادة العظيمة والثناء الأكبر إذا تم استحضارها لحظة الدخول في هذا الركن فإن ذلك يساعدنا في تحقيق مراد الخالق جل وعلا ويوصلنا إلى المرتبة العليا التي كتبها لعباده وأوليائه من المؤمنين ومنها:-
إنّ للصلاة غاية إلهية عظيمة، وكلما أدركنا تلك الغاية كلما كانت صلاتنا مقبولة ودخلنا في عداد المفلحين والناجين والفائزين من عباده في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الحساب.- وكلما أدرك العبد غاية كل ركن بذاته واستشعر أهميته وتفكر في عظمة موقعه ومكانه في هذه العبادة وتنبه لمراد المولى عز وجل منه، وتبين له مظاهر الثناء والعبودية والطاعة فيه وحضر قلبه عند أدائه فتح الله -جلّت عظمته- له باباً من أبواب رحمته وكشف له سراً من أسرار ذلك الركن ورفع عنه حجاب من حجبه وارتقى درجة وقطع في سماء القرب مسافة وكان ذلك الفتح مقدمة وباباً يلج فيه إلى الركن الذي يليه..-
إن ركن القيام تجتمع فيه وأثناءه ثلاثة أركان من أركان هذه العبادة: النية، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة وثلاث آيات. التي تعد الركن الرابع ?والقيام الذي يتكرر في كل ركعة هو أطول الأركان وقتاً في الصلاة هذه العبادة والذكر الأكبر إذ يمثل ما يقارب نصف وقت الصلاة التي عبر عنهاالحق جل علا بالقيام في قوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)[:].وربط في آية أخرى ربط عظمة مكانة هذه العبادة بعظمة قيام القائم فيها فقال تعالى: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، لجلال قيام ذلك النبي الكريم في ذلك المكان المطهر من بيته.-
إن هناك علاقة ما بين تعبدنا للخالق جل وعلا بفعل القيام بين يديه وبين الذكر الذي ننفرد به ونناجي به الحق جل وعلا وبين الوقت الذي نقوم فيه المرتبط بأحوالنا وأوضاعنا في الليل والنهار، فقيامنا في صلاة الفجر بين يدي الخالق له وظيفة وغاية مرتبطة بذلك الوقت المحدد من قبل الخالق جل وعلا وكذا قيامنا عند الظهر والعصر والمغرب والعشاء.- إن القيام بين يدي العلي العظيم يعني الثناء والتعظيم له؛ ولذلك كان المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحرص على أداء هذه العبادة وهو قائم بين يدي الكريم الأكرم فكان يخرج إلى الصلاة في آخر أيامه بين اثنين من أصحابه لإدراكه دلالة ومعنى القيام في تعظيم الخالق.. وقد سار على دربه الإمام الخميني الذي كان يحرص على الصلاة قائماً وكان يتكئ على أهله وهو في أشد مرضه، وكان يقول: إنه يستحي أن يلقى ربه وهو جالس.- إن القيام بين البشر المتعارف عليه له شروطه وله غاياته المتعددة لديهم حتى يسمى قياماً تاماً وكاملاً فيما بينهم ويؤدي أغراضه، وأن الإخلال بأحد شروط القيام من القائم بين يدي رئيسه أو أستاذه أو أبيه يخل بالقيام ويفقده الغاية منه مع أن هذا القيام هو من مخلوق لمخلوق، أما القيام بين يدي الخالق من قبل المخلوق فإنه له وظائفه وغاياته الإلهية التي لا يمكن الإحاطة بها لفرط الفارق الكبير بين الخالق والمخلوق، ولذلك علينا الاجتهاد والتفكر في العلاقة التي تربط المحتاج الفقير الضعيف الحقير المطلق بالغني الكريم الخالق العزيز المطلق.. عندما يقوم ذلك الفقير المطلق بين يدي الغني المطلق..- إن القيام بين يدي الباري عز وجل في الفجر له وظيفته وغايته وهدفه بما يتناسب مع ذلك الوقت في حين أن القيام عند دلوك الشمس وانتصاف النهار والإنسان يكابد الحياة ويجتهد في رضى ربه عبر صور عديدة من الأعمال والتحركات له معانيه ودلالاته المختلفة، وهكذا القيام في المغرب مع غروب الشمس وعند العشاء مع دخول الظلام واختلاف أحوال الإنسان، كما أن القيام في الركعة الأولى يختلف عن القيام في الركعة الثانية من حيث دلالاته وأبعاده، وهكذا في الثالثة والرابعة.