الفساد.. والإرادة السياسية «2»
أحمد يحيى الديلمي
يقول المثل ” نصف الطريق معقم الباب ”
فكرة وضع لائحة مفصلة بخط عريض أمام كل جهة حكومية معنية بتقديم الخدمات للمواطن خطوة هامة وأساسية بشرط أن تجد اهتماما من المسؤولين بشكاوى المواطنين وتشتمل على قدر الرسوم المقررة لكل خدمة والأوراق والمستندات المطلوبة كأهم ثغرة تسهم في ابتزاز المواطن وتحتم كثرة تردده على الجهة المعنية ، وبالذات في الزمن الراهن نتيجة الحصار وانقطاع المرتبات وكانت أيضاً تتم بحجة قلة الراتب الذي يتقاضاه الموظف بحيث أصبحت غطاء لابتزاز المواطن إذا أراد إنجاز معاملته .
ونظراً لعدم وضوح الطلبات التي توجبها كل رخصة يتباطأ الموظف في إنجاز المهمة المطلوبة معللاً بنقص الأوراق والمستندات إضافة إلى ما رافق ذلك من إجراءات بيروقراطية معقدة تضطر المواطن إلى الاستسلام ودفع المطلوب .
الحاجة الماسة للخدمة تحتم عليه عدم الشكوى بالموظف إلى جهات أعلى لعلمه المسبق بصعوبة ثبات خطأ الموظف وقد يتحول إلى مذنب ويحرم من الخدمة إذا تعاضد معه الموظفون في الدرجات العليا ، أي أن المواطن يصبح مخطئا والموظف على حق ، لذلك فإن إيضاح التفاصيل الكلية عن كل خدمة يمثل خطوة أساسية وكما يقال ” نصف الطريق معقم الباب ” وبالتالي لا بد أن تعلق اللوائح في أماكن واضحة للجمهور ، وعلى كل القيادات المعنية في الجهات ذات العلاقة متابعة أي صعوبات وأخذ الشكاوى أولاً بأول للاسهام في إنجاز المعاملات والعمل على إزالة ما علق بالأذهان من أفكار غير سوية وضعت المواطن تحت رحمة الموظف يبتزه كيفما يشاء ، وللتغلب على هذه الأوضاع لا بد من التوعية بجدية المرحلة وتنظيم دورات تدريبية مكثفة للموظفين المعنيين بتقديم الخدمة للمواطنين ، والمقابل لا بد من إيجاد مداخل هامة ومقترحات أساسية لتحفيز المواطن نفسه ودفعه إلى الإسهام المباشر في إنقاذ نفسه والوطن من غرق الابتزاز والمساومات والفساد بحيث يكون شريكا فعليا في الصورة ويصبح كل شيء أمام مرأى ومسمع المواطنين جميعاً بحيث يتمكن كل مواطن من الحصول على الخدمة بسهولة وبدون عناء أو ابتزاز من الموظف ، وفي هذا الاتجاه لا بد من وضع حوافز معنوية ومادية إن أمكن للموظف الذي يبدع في الأداء والمواطن الذي يتقدم بالشكوى كبداية لتشجيع المواطنين على تقديم الشكاوى عن أي موظف يمارس العرقلة في المعاملات بقصد الابتزاز وعند ثبوت الشكوى يتم اتخاذ الإجراءات الرادعة والإعلان عما تم اتخاذه كي يكون عبرة للآخرين وتصبح العملية منظمة تسهم في تهذيب السلوك العام للمواطن والموظف .
خدمات مباشرة للمواطن
من خطاب الرئيس مهدي المشاط الذي دشن به حملة الثورة على الفساد تتضح الجدية وقوة الإرادة كأهم مؤشرات تعني العزم على الخلاص الجماعي من الآلام والأوجاع النفسية التي تحملها المواطن سنوات طويلة واتسمت بالمرارة ، لذلك يمكن القول بكل صراحة وشفافية مطلقة إن هناك إجماعا عاما ومباركة تامة للمسعى وهو ما يتطلب المكاشفة وإطلاع الناس على الحقائق أولاً بأول دون خجل أو تسييس أو مواربة لضمان تفاعل الشارع وإيجاد سند شعبي قوي يدعم الخطوات بأفق وطني عام ، وهذا يعني إسقاط الخطوط الحمراء عن كل موظف إينما كان موقعه وإزالة المحاذير والمخاوف التي كانت تحبط الناس وإسقاط كل الهامات التي تصدرت دور حماية الفساد وشجعت الفاسدين تحت مبدأ التربح من الوظيفة العامة ، فضلاً عن الفساد في الاستدلال على الوقائع المؤكدة لحدوث الجريمة ومثل هذه الاختلالات تقتضي شجاعة وجُرأة في المواجهة وتكرار عرض صور الفساد المتصلة بالخدمات العامة المقدمة للمواطن ، أي أنه لا بد أن تكون إرادة الفعل قوية ناتجة عن الثقة بالنفس والالتزام بضرب الفساد في أوكاره كأهم مدخل لإقامة دولة العدل والنظام والقانون التي تحمي الحقوق وتصون الكرامات وتكفل الحريات .
المهمة صعبة وشائكة إلا أن التصميم وقوة الإرادة كفيلان بترجمة الغايات وإثبات حسن النوايا والتأكيد على أن المرحلة جادة قادرة على إزالة كل مظاهر الفساد من أوكاره .
من المؤكد أن الواقع مصاب بعلل واختلالات كبيرة نتيجة استشراء الفساد وشموله للدين والسياسة والاقتصاد والجوانب الاجتماعية ، وما ترتب على ذلك من فساد في القيم والأخلاق واتساع نطاق الانحرافات السلوكية بدعوى الفقر وقلة الحيلة لكسب ما يسد الرمق ، هذا الفيروس الخطير الذي تسلل إلى عقول بعض الأسر وجعلها تسلم بأن الانحراف قدر محتوم وخيار حتمي لا بديل عنه وكلها معطيات مخيفة تحدد سياق المواجهة وتقتضي أن تكون في الاتجاه الروحي والتوعوي .
حيث يختص بالإعلام والوعظ والإرشاد الديني إذ تقع المسؤولية في هذا الجانب على رجال الدين والوعاظ والخطباء ورجال الإعلام بكل نوافذه ، وتتعاظم مسؤولية العلماء لأنه تتحتم عليهم إزالة المفاهيم الخاطئة التي علقت بالأذهان استناداً إلى فتاوى دينية أصدرها أصحابها بخلفية سياسية بحتة ، كان الهدف منها تعظيم مكاسب الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها رجل الدين وحرمان الدولة من الموارد العامة استناداً إلى مبررات وأسباب تطرقت إليها تلك الفتاوى ، وفي فترة من الفترات صدرت عن رجل دين معروف فتوى أكثر بشاعة اعتبرت الفساد والرشوة والتهريب بشقيه الضريبي والجمركي أعمالا محمودة كنوع من أنواع العصيان والتمرد على الدولة ، واخرى استهانت بعقاب الفاسد والمرتشي والمزور وكل من يمارس أعمالا مخالفة لأحكام الشرع بدعوى أن مجرد أداء العمرة أو التبرع للمجاهدين (في أفغانستان والشيشان وغيرها ، لا في فلسطين ) كفيل بإزالة أي ذنوب وإن تعاضمت وتراكمت وأصبحت كالجبال .
للأسف كل هذه الإشاعات الخاطئة لاقت قبولاً في جميع الأوساط وتم أخذها على محمل الجد ، ولا تزال عالقة بالأذهان بأفكارها السوداء وخطوطها المتعرجة وهو ما يضاعف مسؤولية العلماء الأجلاء ويؤكد أهمية الدور المعول عليهم لإحياء مشاعر الارتباط الحقيقة بالإسلام والتركيز على المعاملات بين الناس باعتبارها أهم دليل على ثبات الدين ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (الدين المعاملة) أو كما قال ، وهذا يتطلب التركيز على معلومة هامة ثابتة في منهج العقيدة مفادها أن العبادات والصدقات لا تغني شيئاً للمسلم إن لم يخلص في العمل فيتجنب كل محرم ويؤتي كل مباح ، استناداً إلى نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فلقد حرّمت ارتكاب الآثام والأوزار وحددت العقوبات والحدود الرادعة وانتهى الخطاب بتلك الصرخة العظيمة التي أطلقها ر سول الهداية صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً ( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) ، وهذا أعظم دليل على ضرورة تطبيق الحدود لضمان استقامة المجتمع ، إلى جانب ما ثبت من أقوال كبار الصحابة رضي الله عنهم في هذا الجانب كقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ( من صحب السلطان وجب أن يكون معه كراكب بحر ، إن سلم بجسمه من الغرق لم يسلم بقلبه من الفرق ) والفرق تعني الخوف، وهناك أقوال وممارسات وأفعال عديدة للرسول وللصحابة يمكن الاستناد إليه وجعلها محورا لمقاومة الفساد وتصحيح المسار الذي علقت به الكثير من الأوساخ وتطهير النفوس التي تدنست بالفساد من خلال معالجات عملية ، تتسم بالوضوح والمصداقية وإحياء الضوابط الذاتية الكفيلة بالتطهر العملي من الأدران ، وإعادة تهذيب السلوك من خلال خلق مقومات الالتزام الذاتي التي تحتم عدم اقتراف أي موبقة خوفاً من الرقابة الذاتية المتصلة بالضمير ومصدرها الخوف من الخالق سبحانه وتعالى ، أي تفعيل مبدأ الخوف من الله ومن عقابه ، فلقد تم التهاون إزاء هذه الجزئية مع أنها هامة وهي أساس الإسلام ، لذلك فإن الدور التوعوي هام وضروري للنجاح في هذا المهمة .. ونستكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله .. والله من وراء القصد ..