ارتبط ظهور الفقه الملكي السُّني بتحوُّل نطام الخلافة الراشدة إلى نظام ملكي وراثي على يد معاوية بن أبي سفيان ، وحصر الحكم في قريش بني أمية ، وصولا إلى أخذ البيعة ليزيد بن معاوية وعبدالملك بن مروان وأولاده بالقوة ، وتكريس ذلك الأسلوب لاحقـا من خلال الوصيّة والغلبة وقوة الشوكة ، وما ترتب على ذلك بالمقابل من مقاومة لهذا الاستبداد والتحريف اللذين تعود اليهما مجازر ومآسي كربلاء والحرة ومكة والمدينة والنجف في العهدين الأموي والعباسي على نحو ما ذكرناه في الحلقة الأولى.
ولا يمكن فصل البدايات التأسيسية لذلك التحريف عن مخرجات فقهية صاغها المؤسسون الأوائل للمذهب الملكي السُّني في العهد الأموي ، ثم واصلها في العصر العبّاسي فقهاء المذهب الحنبلي الذي تولى صناعة جهاز مفاهيمي متكامل يقوم على المبالغة في تضخيم الأحاديث والروايات التي وضعها ونسبها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عدد كبير من مشاهير القُصَّاص والوضّاعين الذين نشرهم معاوية بن أبي سفيان في المساجد وعلى رأسهم الأوزاعي وبن عساكر وكعب الأحبار وأبو هريرة وأبو الدرداء ، لتبرير التحوُّل من الخلافة إلى الملكية الوراثية ، ومن الشورى إلى الاستبداد ، والتنظير لحكم القهر والقوة والغلبة.
أحمد الحبيشي
وبلغ هذا الجهاز المفاهيمي مداه عندما ادعى غلاة الحنابلة في العصر العباسي بأن الروايات والأحاديث الموضوعة والمنسوبة الى الرسول أقوى من القرآن وحاكمة عليه ، وأن الصحابة كلهم عدول ومعصومون عن الخطأ وليس فيهم منافقون ، بالإضافة الى الخلط بين أهل الشوكة وأهل الحل والعقد في المسائل المتعلقة بالوصية لولي العهد ، والاستحلاف على طلاق الشخص من زوجته بعد مبايعته إن هو تراجع عن البيعة ، واشتراط العنصرية السلالية القرشية للحاكم ، وصولا إلى تفويض السلطنة للسلاجقة والمماليك والانكشارية في العهود التي شهدت ضعف وهشاشة نظام الخلافة ، وما ترتب على ذلك من تكريس ثقافة الاستسلام بواسطة معتقدات سياسية محضة آمن بها الفقهاء السلف ، كالجبرية والقدرية والإرجاء ، وتحريم الثورة وفرض طاعة الحاكم، وتحقير المرأة ، وتجسيم صفات الله في الذات الانسانية للملوك ورجال الدين القديسين ، ومحاربة العقل والفلسفة والعلوم الطبيعية واضطهاد المشتغلين في هذه العلوم وملاحقتهم وإحراق كتبهم.
وصل الحصاد المر لتغوُّل نفوذ الفقه السُّني الحنبلي الى ذروته المأساوية بعد ان اصبح مؤسسة دينية رسمية لعبت بعد وصول الخليفة المتوكل العباسي الى الحكم دورا كبيرا في تكريس الفكر الاستبدادي والتشدد الديني بصياغات فقهية مذهبية وضعية ، وهو ما أسهم في تشويه نظام الحكم الإسلامي منذ تحوله إلى نظام ملكي سُنّي وراثي عائلي ، بدءاً بالنظام الأموي والعباسي، ومرورا بظهور دول ملوك الطوائف ، وسيطرة السلاجقة والمماليك والانكشارية التي ارتبطت ببروز ظاهرة تفويض السلطنة في ظل وجود خليفة قرشي ضعيف، وانتهاء بالخلافة العثمانية السلطانية التي أصابها الركود الحضاري والتفكك والانهيار، قبل أن تُمهِّد لدخول المجتمع الإسلامي في نفق التخلف والاستعمار والتبعية والاستبداد والتفكك.
ويعود إلى الفقه الملكي السُّني تراكم إرثٍ ثقيلٍ من الثقافة السياسية الاستبدادية الملتبسة بالدين ، لجهة تمجيد الاستبداد والحث على الطاعة والخضوع وتبرير الظلم ، على الرغم من أن الله تعالى أمر في القرآن الكريم بالعدل والقسط واتباع الحق ، ونهى عن الظلم الذي جعله في مرتبة واحدة مع الشرك بما هو أشد أنواع الكفر، ثم توعد الظالمين في مئات الآيات بالعقاب في الدنيا والآخرة.. بيد أن الفقه الملكي السُّني أباح الاستيلاء على السلطة بالقوة والقهر والغلبة، وامتنع عن إدانة نهب المال العام والخاص من قبل الحكام، وسكت عن توزيع مقدرات الدولة والمجتمع على الأقارب والأصحاب والمناصرين ، وأباح قتل وقطع عنق كل من يعارض الحكام الظلمة والمستبدين ويطالب بالعدل والحرية ، وما تبع ذلك من هدم لأسس العدل في القرآن الذي جاءت آياته عامة ومطلقة وشاملة لجميع جوانب الحياة، ولجميع الناس (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء 58)، (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود 113) (وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) (الفرقان 19).
بيد أن فقهاء المذهب الحنبلي السُّني قاموا بإلغاء حاكمية القرآن اعتمادا على بعض الأحاديث والروايات الوضعية ، وزعموا بحاكمية الأحاديث ـــ التي نسبها واضعوها إلى الرسول ـــ على القرآن، وشددوا على تخصيص الأحاديث لعموم آيات القرآن، حيث استثنى غُلاة الفقه السُّني الحنبلي الحكام الظلمة من شمول آيات العدل والقسط بناء على أحاديث وروايات موضوعة وباطلة تأمر بالخضوع للحكام الظالمين وتوجب طاعتهم.
إعفاء الحكام الظلمة من شرط العدل والقسط
تأسيسا على ذلك ، قام الغُلاة من فقهاء المذهب الملكي السُّني الحنبلي باستثناء وإعفاء الحكام الظلمة والفاسدين من حكم الغاصب وشرط العدل والقسط ، وكانت حجتهم الواهية أن أدلة حكم الغاصب في القرآن والحديث النبوي عامة، بينما أدلة طاعة الحاكم خاصة. ولذلك لم يطبقوا هذه الأحكام في حق الملوك والسلاطين ، بل عمّموها على غيرهم من المحكومين فقط ، وأوصوا هؤلاء بالصبر على الظلم وطاعة الحاكم الظالم والفاسد حتى وان جلد ظهورهم ونهب أموالهم !!
على تربة هذا الفقه الملكي الاستبدادي، وقع المسلمون تحت براثن الطغيان والظلم والفساد، الأمر الذي كان يؤدي دائمـا إلى التمرد والثورة واستخدام العنف من أجل التغيير والإصلاح بالقوة ، ثم يعود الحكام الجدد الذين وصلوا إلى السلطة تحت هذه الشعارات لممارسة الظلم والاستبداد والفساد من جديد، والاستعانة بالفقه الملكي السُّني مجددا كغطاء لممارسة الظلم والاستبداد وقمع خصومهم السابقين واللاحقين بوحشية ، وفتح باب جديد للثورة والتمرد عليهم، وهو ما أدخل المجتمع الإسلامي في نفق طويل ومظلم تعاقبت فيه الصراعات الدموية على السلطة والثروة ، إلى أن انهار نظام الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وسقط العالم الإسلامي تحت السيطرة الاستعمارية الأوروبية ، وقد أدى هذا السقوط إلى دخول المذهب الملكي السُّني مأزقـا حاداً يشبه ذات المأزق الذي دخلت فيه المذاهب الملكية في التاريخ الإسلامي واليهودي والمسيحي.
لكن هذا السقوط تزامن مع ميلاد حركة فقهية جديدة تدعو إلى الإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشر الميلادي ، حيث دشنت هذه الحركة البدايات الأولى لثورة ثقافية في أصول المذهب السُّني، بهدف الدعوة إلى الإصلاح والتجديد والحرية والعدالة والنهضة.
وقد بدأت هذه الحركة في ظل الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر الميلادي على أيدي مفكرين إسلاميين معاصرين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا الذين كانوا يرون في الشورى والديمقراطية مدخلا للتخلص من رواسب ثقافة الاستبداد.
ثم قام الصدر الأعظم مدحت باشا بسن أول دستور في تاريخ نظام الخلافة السني، وأجرى أول انتخابات برلمانية سنة 1876، ولكن السلطان عبدالحميد الثاني عاد فألغى الدستور وحل البرلمان المنتخب بعد سنة من إقراره تحت تأثير ضغوط فقهاء اسطنبول الذين تأثروا بصحوة الفقه الملكي السُّني على يد الحركة السلفية الوهّابية الحنبلية الجديدة بقيادة الشيخ النجدي محمد بن عبدالوهاب ، في مواجهة حركة النهضة الإسلامية التي نشأت في مصر والشام بالترابط الوثيق مع ظهور الفكر القومي المناهض للاستعمار الأوروبي.
وقد شدد خصوم حركة النهضة من فقهاء المذهب الملكي الحنبلي السُّني في صيغته الوهابية الاخوانية الجديدة بعد سقوط الدولة العثمانية ، على أن الإسلام يمتلك نظامـا سياسيا فريدا هو نظام الخلافة القائم على الكتاب والسنة وفق المذهب الملكي السُّني الذي يضع السنة فوق الكتاب ، وزعموا بأن القرآن يحتاج الى الحديث، بينما الحديث لا يحتاج الى القرآن، وهو ما يتناقض صراحة مع قول الله في القرآن الكريم (فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام 38 ) وقوله تعالى ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف 185) الأمر الذي يستوجب العودة إلى بدايات ظهور هذا المذهب ومقاربة مسار ومفاعيل نشوئه حتى الآن.
ولئن كان المؤرخون يعيدون بدايات ظهور المذهب الملكي السُّني إلى فقهاء النظام الأموي بعد تحويل الخلافة إلى ملكية وراثية سلالية، فإن مؤرخين آخرين يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يعيدون جذور هذا المذهب إلى الفتنة الكبرى التي مهدت لنهاية عهد الخلفاء الراشدين. فقد كانت الثورة على الخليفة عثمان بن عفان في جوهرها ثورة للمهاجرين والأنصار والعرب والموالي في مصر والعراق والحجاز ضد هيمنة قريش بني أمية على أثر صعود (الطُّلقاء) من كفارها قبل اعتناقهم الإسلام، وتسيُّدهم على المهاجرين والأنصار العرب في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من مبادرة الثوار لانتخاب خليفة جديد بأنفسهم حيث رفعوا عاليـا شعار الشورى بعد مقتل عثمان.
ومن نافل القول إن الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه لم يشارك في التحريض ضد عثمان مثلما فعل طلحة والزبير، وهما صحابيان جليلان من أعضاء هيئة الشورى الثلاثية التي كلفها الخليفة عمر بن الخطاب باختيار خليفة بعده من بين ستة صحابة رشحهم قبل موته لخلافته.. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن الجماهير الثائرة اتجهت صوب علي بن أبي طالب وطوّقت منزله ثلاثة أيام لمبايعته خليفة بعد عثمان بن عفّان.
ويروي الطبري في تاريخ الرسل والملوك (ج 3 – ص 15) ، أن الإمام علي بن أبي طالب خرج عليهم من داره وقال لهم : (لا تعجلوا فإن عمر كان رجلا مباركا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا حتى يجتمع الناس ويتشاوروا ) (نهج البلاغة / كتاب رقم 6).
بيد أن الثوار أصرّوا على اختيارهم لعلي بن أبي طالب فقال لهم : ( فإن أبيتم فإن بيعتي لا تكون سرا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وسأخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني.. وإن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر) (الطبري ـــ تاريخ الرسل والملوك ــ ج 3 ــ ص 450) ، وعندما تأكد من حصول ذلك بالاختيار وليس بالإكراه والعنف، قبل البيعة وأصبح خليفة وأميرا للمؤمنين.
والمثير للتأمل أن طلحة والزبير اللذين قادا الثورة ضد عثمان وأصرّا على أن يخلفه علي بن أبي طالب ، سعيا إلى الخليفة الجديد للتمتع بحصة مالية متميزة كما كان حالهما في عهد عمر وعثمان ، إلا أن الخليفة علي بن أبي طالب بدأ يساوي منذ اليوم الأول لتوليه الحكم بينهما وعامة الناس في العطاء والشورى ، ما أثار امتعاضهما ودفعهما الى مفاتحته ، فرد عليهما: (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فأتبعته، وما استن النبي (صلى الله عليه وسلم) فاقتديت به، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى» (نهج البلاغة) /205.
إلى ذلك يروي ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة – الجزء الأول ص 89)، إن طلحة والزبير أدركهما اليأس من الحصول على وضع مالي متميز في ظل خلافة علي، فادعيا أن بيعتهما له كانت تحت الضغط والإكراه ما أدى إلى قيامهما بالخروج على أمير المؤمنين على بن أبي طالب ، حيث حشدا جيشاً مسلحًاً من أعوانهما في البصرة، وقد تزامن هذا الخروج مع قيام معاوية بن أبي سفيان بالتحريض ضد الخليفة علي بن أبي طالب والتشكيك ببيعته ، فكتب إلى أهل مكة والمدينة رسائل طالب فيها بدم عثمان، كما كتب رسائل تحريضية مماثلة إلى كل من عبدالله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة بنت أبي بكر أرملة رسول الله ، طالب فيها بدم عثمان وعدم إلزامية البيعة لعلي بن أبي طالب وهو في الشام.
في هذا السياق أورد ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة – الجزء الأول ص 90) إن معاوية طلب من أبي هريرة ـــ وكان صديقـا حميمـا له قبل أن يعتنقا الإسلام معا في السنتين الأخيرتين من حياة الرسول ـــ بالإضافة إلى كعب الأحبار وأبي الدرداء أن يذهبوا إلى الخليفة علي بن أبي طالب كممثلين عنه ، ويطلبوا منه أن يدفع إليهم قتلة عثمان ، لكن علي بن أبي طالب لم يكتف برفض الطلب ، بل قام بطردهم مذكرا إياهم بحربهم على الاسلام وما عاناه الرسول من أذى على أيديهم.
ولم ينس الإمام علي بن أبي طالب أن يُذكِّر كعب الأحبار وأبا هريرة بأن عمر بن الخطاب كان يزجرهما بسبب إسرافهما في رواية الأحاديث التي ينسبوها الى رسول الله ، مع أنهما لم يتركا الديانة اليهودية التلمودية ولم يعتنقا الاسلام الا قبل عام واحد فقط من وفاة الرسول !!!؟؟؟؟..
وإلى هذه الواقعة يعود الدور المركزي الذي لعبه أبو هريرة وكعب الأحبار وأبو الدرداء في رواية أخطر الأحاديث المنسوبة إلى الرسول وأكثرها إثارة للجدل والخلاف، والتي انقسم وتـقاتـل بسببها المسلمون بعد أن أفادت معاوية بن أبي سفيان عقب استيلائه على الحكم وتحويله إلى نظام وراثي ملكي عائلي. وقد لعبت الأحاديث والروايات التي رواها ابو هريرة وكعب الأحبار وأبو الدرداء ، الى جانب عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي الذي وضع حديث حد الردة ، دورا أساسيا في تأسيس المذهب الملكي السني.
ومما له دلالة أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حرص على الاستشهاد بالأعراف الانتخابية التي استقرت في الحياة السياسية لدولة الخلافة الراشدة منذ انتخاب أبي بكر الصديق، وهو حق أهل المدينة باختيار الخليفة وسريان مفعول البيعة في المدينة على سائر الأقطار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الأعراف لم تكن وحيـا منزلا من السماء أو امتدادا للسيرة النبوية المطهرة ، وإنما هي نتاج موضوعي للواقع نتيجة لعدم توافر وسائل المواصلات وعدم نضج الشروط الهيكلية للدولة الجديدة ، على الرغم من وجود إمكانية انتخاب ممثلين لزعماء القبائل والمدن والأقاليم المختلفة ودعوتهم للاجتماع في المدينة أو إرسال مندوبين عنهم.. ولكن محددات الوعي السياسي العام والأعراف الدستورية المكتسبة آنذاك ، لم تكن في ذلك العصر تسمح بالتعاطي مع هذا النوع من الاتفاق العام بين جميع المدن والأقاليم لضمان أوسع بيعة جماعية للخليفة الجديد. فقد انحصرت تلك المحددات على أن يوكل أمر انتخاب الخليفة إلى أهل المدينة المنورة في (مركز دولة الخلافة) بمعنى العاصمة ، وهو ما يفسر استشهاد الخليفة علي بن أبي طالب ببيعة الخلفاء السابقين في المدينة كسوابق دستورية متعارف عليها ، ورفضه حق الغائبين بالرفض والخروج على الخليفة الذي تمت بيعته.
ومن جانبه كان معاوية يشكك بحق المهاجرين من قريش إلى المدينة في اختيار الخليفة علي بن أبي طالب بحجة مشاركتهم في الثورة على عثمان بن عفان وقتله بوحشية ، فكتب إلى علي بن أبي طالب قائلا: ((لعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار.. وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، وقد كان أهل الحجاز «المهاجرون» الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام))..
فرد عليه الخليفة علي بن أبي طالب : (( ما أمرت فيلزمني خطيئته عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. أما قولك إن أهل الشام هم الحكام على الناس، فهات رجلا من قريش الشام «الطلقاء» يقبل في الشورى لو تحل له الخلافة، فإن سميت كذبك المهاجرون والأنصار)). وقد أكد هذا المعنى عبدالله بن عباس في جوابه على رسالة تحريضية وصلته من معاوية قال فيها : (إن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة وأنت طليق الإسلام وابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر) (ابن قتيبة – الإمامة والسياسة) الجزء الأول ص 155).
وبحسب ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ) ، فقد أصاب اليأس معاوية بن أبي سفيان، من استجابة علي بن أبي طالب لشروطه ومطالبه، فطرح فكرة الاستقلال بالشام وقال لأحد الوسطاء: ((اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية)) ولكن الخليفة علي بن أبي طالب رفض هذا الطلب أيضـا، الأمر الذي دفع معاوية إلى إعلان نفسه خليفة على المسلمين، وأخذ البيعة لنفسه من أهل الشام فقط ، في الوقت الذي كان يوجد فيه خليفة شرعي لعامة المسلمين في الحجاز ومصر والعراق واليمن وبلاد فارس وسائر الأمصار الإسلامية، وهو ما كان بمثابة انتهاك لقانون دستوري إسلامي يحرم قيام خليفتين في وقت واحد ، ما أدى إلى إشعال نيران حرب داخلية ضروس بين المسلمين استمرت سنوات طويلة وقضت على أكثر من مائة ألف مسلم من الطرفين، وانتهت بانتقال مركز الخلافة الى دمشق على يد معاوية بن ابي سفيان وتحولها الى نظام ملكي وراثي ، قبل أن يخترع فقهاء المذهب الملكي السُّني في وقت لاحق حديثـا نسبوه إلى النبي (إذا تنازع على البيعة خليفتان فاقطعوا عنق الثاني) وفي رواية أخرى ( إذا تدافع وبويع على الخلافة إثنان فاقطعوا عنق الآخر)، وهو حديث ظهر لأول مرة بعد مبايعة أهل مكة والمدينة لـلصحابي عبدالله بن الزبير، ومبايعة أهل الشام لعبدالملك بن مروان في وقت متأخر بعد مقتل والده في دمشق ، الأمر الذي ترك بصماته على نشوء وتطور المذهب الملكي السُّني منذ بداياته الأولى، وحتى استقراره في صيغته الحنبلية الراهنة على أيدي احمد بن تيمية الحرَّاني ومحمد بن عبدالوهاب النجدي وصولاً الى فقهاء ممالك النفط الوراثية العائلية في نجد والخليج !!
ومن المعروف أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ـــ بما هو أكبر وأشهر الفقهاء المؤسسين للمذهب الملــكي السُّــني ــ ولد سنة 26 للهجرة ، وتربّى في المدينة المنورة حيث كان أبوه مروان بن الحكم واليا عليها في عهد معاوية بن أبي سفيان، فدرس «عبد الملك» في المدينة علوم القرآن واللغة العربية وتفوق فيها ، و انتقل إلى دمشق ودرس في مجالس فقهاء النظام الأموي وعلى رأسهم الأوزاعي وبن عساكر ، حتى أصبح من كبار الفقهاء المؤسِّسين للمذهب الملكي السُّني ، ثم تكونت شخصيته السياسية القيادية ـــ الى جانب مكانته الفقهية ـــ في دمشق حاضرة الدولة الأموية. وهو فوق ذلك شاعر وأديب وخطيب مُفوّه. كما لُقّب بـ (أبي الملوك) إذ أن أربعة من أبنائه تولوا الخلافة الأموية وراثة من بعده وهم (الوليد ، سليمان ، يزيد الثاني وهشام).!!
وتروي كتب التاريخ المعتبرة عند أهل السنة وفي مقدمتها كتب الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون ، ان عبد الملك بن مروان ينتمي الى عائلة ملكية من الفقهاء ، حيث ورث الخلافة بعد مقتل والده مروان بن الحكم ، ثم حمل لقب أبي الملوك وهم الوليد ين عبدالملك وهشام بن مروان الحكم ويزيد بن عبدالملك بن مروان وعمر بن عبدالعزيز بن عبدالملك ويزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان..وفي عهدهم ــ باستثناء الخليفة عمر بن عبدالعزيز ــ تم وضع فقه الملوك والسلاطين استنادا الى أحاديث مفتراة على الرسول صلوات الله عليه.
وكانت الدولة الإسلامية في بداية توليه الحكم منقسمة بين خلافتين: الأولى ممثلة بالدولة الأموية وكانت تحكم مصر والشام ، أما الثانية فقد كانت تحكم العراق والحجاز والطائف واليمن وعمان تحت خلافة عبد الله ابن الزبير الذي كان يدير خلافته من مكة بعد ان تمت بيعته في مكة والمدينة قبل شهر من مبايعة أهل الشام لعبدالملك بن مروان الذي بعث بالحجاج بن يوسف الثقفي فور توليه الحكم ، لكي يبسط نفوذ الأمويين على كامل أراضي العراق والحجاز، حيث خرج الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق وهزم والي البصرة. ثم توجه بجيشه إلى الطائف، وانتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماما، فسار إلى مكة وحاصر ابن الزبير فيها، ونصب قذائف المنجنيقات على جبل أبي قبيس وعلى قعيقعان. ودامت تلك الحرب عدة شهور تعرضت فيها الكعبة المشرفة لقصف شديد بنيران المنجنيق من قبل جيش عبدالملك بن مروان ، وانتهت بقتل عبدالله بن الزبير حفيد الصحابي الجليل والخليفة الراشد ابي بكر الصديق بطريقة وحشية وغير انسانية كانت سببا في وفاة أمه أسماء ذات النطاقين ابنة ابي بكر الصديق وأخت عائشة بنت أبي بكر وزوجة الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة ، حزنا وكمدا على ابنها !!
وعند أول حج للخليفة عبدالملك بن مروان بعد مقتل عبدالله بن الزبير وقف ــ وهو المعروف بأنه الأكثر ورعا وفقها وتقوى ــ ليخطب أمام الناس بعد ان وضع قدميه فوق قبر ابن الزبير قائلا: ((والله لو أن أحدكم أمرني بتقوى الله لقطعت عنقه بحد هذا السيف)).
في هذا السياق التاريخي والسياسي يمكن أن نفهم جذور ثقافة الكراهية ضد آل بيت رسول الله وفي مقدمتهم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب وبنيه الذين تعرضت قبورهم للتدمير ، بالتزامن مع تحريم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من قبل الحنابلة ومن والاهم من فقهاء الملوك والسلاطين!!