عقب ظهيرة اليوم الأخير للضجيج كانت هي ذروة الزحام في شوارع هائل المخنوق بالبشر والبسطات والباعة المتجولين وشرداٍ من لصوص الظلام المنتظرين لعنة الكهرباء لممارسة هوايات النشل.. هذه الذروة كانت هي المساحة التي تعتد من الساعات الثانية ظهراٍ حتى التاسعة ليلاٍ على مشارف صبيحة العيد لبدءس أول انكسار لخط الانحدار المفاجئ ساحبا أذيال الزحام أمام زحف الجو الفرائحي في نفوس الناس قبل أن يتجلى صدر المدينة بابتهاج الصباح.. لكن الأهم في هذه التناوله المقتضبة على عتبات يوم العيد هو كيف تتداخل عوامل الفصل التام..
ذروة الزحام والصخب وبين بهجة المدينة بالعيد وما اللافت فيها وما الجديد ولماذا الأطفال وحدهم هم بهجة العيد ونرجسته وفوحه الزاكي وما الذي تبقى للفن والعاطفة والصفح الجميل¿
> وحده الصخب والزحام الذي يجعلك تعترف بشيء اسمه العيد وتتناسى تماما بهجة الفرح والأمل في وجوه الناس حين كانت البشاشة حللاٍ من فيض البشر فتذكر نفسك بالكاد وأنت خافض جناحيك في شرنقة الزحام حتى لا تتيه خطاك وتمديد الزحام الذي يحمل غشاٍ من النفوس إلى جيبك فتخرج عن طورك كما حدث أمامي في أحد الأسواق حيث صرخ حسن 54 عاما على ما يبذر ضاربا كفا بكف عيال الحرام سرقوني يحكي حسن عبدالله الذي يحرس في عمارة بحي بغداد أنه دخل شارع هائل لشراء مصاريف العيد لكنه لم يعرف متى سرقت محفظة نقوده من جيبه خلال الزحام إذ لم ينتبه على حد قوله حين أدخل يده ليخرج النقود ليحاسب المحل إنه مقهور على حلمه في شراء حاجيات العيد وملابس الأطفال كل من شاهده عض شفة الندم رفقا بحاله كان ذلك في مساء الاثنين الذي سبق العيد 12 ساعة فقط حينها خرجت من السوق في حالة من القرف إنها واحدة من أهم لعنات الصخب والزحام التي تعتري المدينة وتقهر البسطاء ودون رحمة في ظل غياب القانون والشرع ما أطلق العنان لذوي النفوس المريضة وعديمي الضمائر الذين يغالطون أنفسهم بالكسب الحرام والتطاول على قوت أطفال وصغار ليس لهم غير هذا الزاد.
تراجع مفاجئ
لم يكن لائقا أن تكون القصة السابقة في صدارة تسلسل هذه الأجواء الفرائحية لكنا ألمها سيفقد الضحية بشيء كبير من فرحه ويجعله يعيش جواٍ آخر وبعداٍ نفسياٍ حزينا وهذا حري بأن يتذكره من يمر على هذا التحقيق مدركا أن فردا بل آلاف من المجتمع يعيشون أجواء حزينة في بهجة العيد في تمام الساعة التاسعة مساء بدأت الانكسار بخطة المنحدر بشكل مفاجئ قد بلغ ذروته في لحركة حيث تتجه الحركة نحو الفرز والخطوط الطويلة دون توقف بل بسرعة السحاب الشوارع تخف والمحلات التجارية والأسواق الكبيرة والسوبر ماركات تتقيأ مخلفاتها الكرتونية والبلاستكية إلى الشوارع فيما عمال النظافة على أهبة الاستعداد لسماع صفارة ساعة الصفر على تمام الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل لمسح الشوارع بسواعد العزيمة وتنظيفها بإشراف إداري من المديريات وترتيب كل شيء لاستقبال صباح العيد الكبير عيد الأضحى المبارك ذو الأجواء الفرائحية الأكثر والأوسع انتشاراٍ بحكم سفر الناس بعوائلهم إلى القرى والأرياف كون هذا العيد هو العيد الكبير في نظر المجتمع اليمني والمجتمعات العربية..
مع إشراقه شمس أول أيام عيد الأضحى المبارك تكون المدينة قد استعادت عذريتها الحضرية ووجهها البهي وشوارعها المفتوحة على الهواء الطلق فيما أبواب المحال موصودة تنصت بهدوء مع البشر لتسابيح العيد المبخر بروحانية الحج العظيم الذي تتسع تلبية حجابه لتملأ الآفاق وتدخل المنازل والبيوت.
وتعمر المنارات في كل أنحاء المعمورة.. فالكل يصدح معهم والمساجد تنصت خاشعة والأطفال ينتظرون صفارة البهجة الطماش وعسب العيد.
على هذا الجو يشرق العيد مبهجاٍ في كل مكان من المدينة أما القرى فإشراقة شمس يومها الأول غير كل الاشراقات فالإنسان يتنفس الطبيعة من جوقة النقاء وبخار الطل الذي يتبسم لحظة الشروق ولون فجره وشمس الوثير ومع اجتماع أبناء القرى في المساجد أو الجبانات تكون القرى قد استعادت أغلب طيورها المهاجرة على إيقاع الفرح والمحبة.
السلام روح العيد
حين يكون صباح العيد قد رتب إشراقته الروحية والضوئية ونشر أفيائه في النفوس تكون الأيدي قد فكت أجنحة الصمت معلنة مد جسور السلام والمحبة والتسامح مع الأهل والصغار والجيران والأبعد فالأبعد لتصل النفوس النقية والصالحة إلى حب الخير والسلام الحقيقي لكل بني الأنسانية..
ولأن السلام هو مفتاح الخير والحب والتعايش فقد صار مع تقادم الأيام هو روح العيد الذي يسري في المجتمع ما لم تدنسه أمراض الحقد.. وليس غريباٍ عليه هذه السمة والميدة فهو يجعلك تمد يد الحب والتسامح والصفح الجميل لمن عرفت ومن لم تعرف فتبدأ من الأم والأب والأهل والصغار والجيران والمساحة مفتوحة باستدارة فرحة العيد بين جفون الصغار وغْرر الورود..
بهجة العيد
تصور نفسك في منفى أو بعيداٍ في مدينة تكلست فيها قيم التعارف والرحمة أو في معسكر يتصف بأعلى دجات القسوة العسكرية والحيطة والحذر فما الذي يعنيه لك العيد¿! دون أن ترى ابتسامة طفل أو دلال طفلتك أو حتى أطفالاٍ آخرين يذكرونك بأجواء العيد بالتأكيد سيمر عليك يوم
العيد كأي يوم قتلته المعاناة وصادرت جماله الالتزامات والانضباط وغيرها.. وهنا لن تشم رائحة الفرح وحرية الحركة وأكسير السرور ولهذا سيدرك جميعنا أن لا بهجة ولا لون وأفق للعيد دون فرح الأطفال ولعبهم وضحكاتهم..
أتذكر في هذا المقام أخي قبل خمس سنوات من الزواج وتكوين الأسرة التي أعيش السعادة في ظلها كنت إذا صادفت الظروف وأقضي العيد في صنعاء لعمل.. أفر في أقرب فرصة تسنح لي لأعمل لفة كاملة إلى حديقة السبعين أو حديقة الثورة لأرى الأطفال والألعاب والفرح.. ما قاله عبدالله علي زيد صاحب بقالة حين سألته عن معنى العيد دون أطفال وأضاف: “لا اعتقد اليوم أو قبل اليوم أن إنسان يشعر بأن للعيد مكانة أو معنى بدون الأطفال حتى الناس الذين لم يرزقهم الله الأطفال لأسباب ما لا يعيشون العيد بمعناه الحقيقي إلا حين يصافحون أو يرون الأطفال.
العيد عن بعد
ما ذكرناه لا يعني أن الزمن يتوقف حين يمر عيده بلا عيش في أجواء الأسرة.. فكثير من الناس والمغتربين والمجندين يعيشون العيد بعيداٍ عن أسرهم إلا أن للعيد أجواء فرائحية يعيشونها عن بعد من خلال التكنولوجيا الحديثة وطفرتها التي وصلت إلى كل بيت فالتواصل يبلغ ذروته عبر الهاتف النقال في اليمن وهذا ما يقوله المهندس أحمد دحان – موظف في شركة اتصالات مؤكداٍ أن الخطوط أيام العيد تزدحم إلى درجة الاختناق أحياناٍ والتقطع في الشبكة وتظل الاختناقات خلال الثلاثة الأيام للعيد لكن اليوم الأول تكون ذروة الاتصالات كجزء من طقوس وأجواء العيد عن بْعد..
تصوير/عبدالله حويس