الثورة / عبدالقادر عثمان
مشاهد جمالية تبعث على الشعور بالفرحة والسكينة وتعيد التاريخ إلى الحقبة الإسلامية الأولى، اكتست بها المباني والطرقات والآكام والأماكن العامة ودور العبادة والجامعات والمدارس وحتى الأسواق وعربات النقل في كل محافظات اليمن التي يديرها المجلس السياسي الأعلى؛ ابتهاجا بقدوم مولد رسول الله محمد – صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله – الذي يحل ضيفا على الأمة الإسلامية يوم غد السبت الـ 12 ربيع الأول 1441 للهجرة، الموافق 9 نوفمبر 2019.
أينما وليت وجهك، في وضح النهار أو دجى الليل، فثمة ملامح تشد انتباهك، تغمرك بغبطة شعب يتمسك برسول الله ويجدد الولاء له بالسير على هديه والاقتداء به في كل مناحي الحياة في الوقت الذي يتمسك فيه أعداؤه بما تسمى القوى العظمى في العالم، وهي التي أرادت النيل من الشعب اليمني منذ انطلاق ثورته الرافضة للهيمنة الاستعمارية التي فرضتها تلك القوى على اليمن جراء اختلالات سيادية لدى الأنظمة السابقة، حتى جاءت الثورة التي انطلقت من رحم الشعب حاملة منهج القرآن فهب الجميع لوأدها لكنها تأبى إلا الاستمرار في عنفوانها وطوفانها المستمد طاقته من محبة الشعب اليمني لرسول الله ومنهاجه.
ولعل الشعب اليمني هو الشعب الوحيد الذي تلهّف لقدوم هذه المناسبة العظيمة التي تعيد إلى الواجهة ذكرى مولد النبي الكريم، على رغم المآسي التي خلفتها حرب دول العدوان على اليمن في كل بيت. هذا الشعب أبى إلا أن يجعل لذكرى مولد لرسول الله مساحة للفرحة ومحطة لتجديد العهد بمواصلة السير في نهج الله وعلى خطى سيد المرسلين في وقت أصبح فيه هذا اليوم كسائر الأيام إن لم يكن حالة نادرة يحب تجاهلها حسب هـوى مــن حملــوا إلى الأجيال المعاصرة دينا غير الذي جاء به محمد وغير الذي أنزله الله، فأفتى علماء ذلك الدين تحريماً وتجريماً للاحتفال به ونبذا لمن تجاوز تلك الفتاوى، بل عداوة تنتج حربا كالتي يشنها العدوان على الشعب اليمني المعروف بحبه لرسول الله وآله ونصرتهم لدينه.
مظاهر الفرحة التي ارتسمت في اليمن كادت تجعل منها بساطاً يشع نوراً وجمالاً يأسرا الأنظار: أعلام ترفرف باسم رسول الله، وشعارات ألصقت في كل جدار وشبّاك وباب، وحملت عربات النقل – بألوانها الخضراء – تجوب شوارع صنعاء والحديدة وصعدة وذمار وحجة وتعز وإب وعمران وغير تلك المحافظات، حاملة اسم المصطفى وعبارات المحبة اليمانية إلى كل حي في أحياء تلك المدن ناثرة روحانية المشهد في قلوب الناظرين.
تجّار وفقراء، مسؤولون وطلاب، عمّال وعلماء، شباب وشيوخ ونساء، الكل يتهافتون حباً وشغفاً للاحتفال بالذكرى الشريفة فمنهم من علّق زينة على مدخل بيته ومنهم من أضاء الحـــي وزيّنه وغيرهم من طلى سيارته أو شارك في تنظيف الشوارع وتلوينها وإضاءتها، فالجميع يرون أنفسهم سواء في محبة رسول الله ولا فرق بينهم في المبادرة للتعبير عن الحب المكنون في نفوسهم الزكيّة وقلوبهم التي وصفها النبي – صلوات الله عليه وآله – بالرقيقة، وهم في الوقت ذاته أولو قوة وأولو بأس شديد على أعدائهم وأعداء الله ورسوله.
في شـــــوارع المدن تتملّكك الدهشة لتلك الألوان المنشولة على امتدادها سمائها والمتحركة في كل الاتجاهات نهاراً، والأضواء المعلّقة بألوانها الزاهية والغمّازات المتشكّلة بكلمات تحمل السم النبي وتلبي نداءه وتصلي وتسلم عليه، في بلاد قصفت كل محطاته الكهربائية فاستخدم الطاقة البديلة وقاسمها فرحة الاحتفال بأعظم عيد، فيما رُسِم على الجبال الحاضنة لصنعاء: محمد رسول الله، لبيك يا رسول الله.
في المساء تبدو صنعاء كجوهرة من الفيروز، مآذنها تشعّ نوراً ومنازلها تعكس الألوان من القمريـــات كنجــــوم متعانقة، وحيثمـا تنقّلــت في المدينة وضواحيها ستجد الضوء يغمرك بألوان متنوعة كحال المدينة التي تضم جميع ألوان الطيف السياسي والمذهبي والعرقي والسلالي وتحتضنهم بدفء كأمٍّ حنونة وتغدقهم من فيض محبتها رغم جراحها الغائر وأنينها الخافت من عقوق من لفظهم الوقت إلى المنفى.
يتحدث العالم عن أن العدوان على اليمن خلق أسوأ أزمة إنســانية في العالم من فقر ومجاعة وأمراض وأحزان، لكنهم اليوم يبعثون صورة إلى ذلك العالم، تعكس قدرتهم على صناعة أفراحهم الخاصة رغم كل العوائق، وكذا قدرتهم على العودة من جديد من خلال تمسكهم بخصوصيتهم اللامادية من تراثهم العريق وصونهم لكرامتهم وسيادة بلدهم ورغبتهم في الفناء من أجل وطنهم ودينهم ورسول الله الكريم.
ولعل زيارة إلى أي مدينة يمنية كافية لتعيد إلى نفسك زكاها وتجدّد العلاقة المتينة بين رسول الله وأبناء هذا الشعب الذي دعا له النبي بالبركة فكانوا خير من ناصروه وأول من جاهدوا معه وأول من استشهدوا أيضاً، وما تفضيله البقاء بينهم عن العودة للعيش في مكة إلا دليل حب وثقة جمعت بينهم، يجددها اليمانون اليوم بمقارعتهم للطواغيت الجدد رغم انحسار مسار التـــاريــخ الإســـلامي وتشويه السيرة النبوية الحقيقية.
وكالأوس والخزرج يقف أبناء اليمن شامخين، في عصر وصلت فيه الأمة الإسلامية إلى حالة من الضعف والهوان، يتصدون لكل قوى الباطل بما أوتوا من حق في قضيتهم ونور في مسيرتهم، ينشدون محبة وولاءً وتضحية للبدر الذي طلع عليهم مهاجراً من أرض قوم آذوه وأرادوا النيل منه، ويحييون ذكرى مولده تشريفاً وتعظيماً وتبجيلاً، ولسان حالهم يقول: محمّديون باسم المصطفى هتفوا/ ما همهم تستمر الحرب أو تقفُ، وليس في قلوبهم سوى الطمأنينة والسكينة والمحبة لأنهم يدركون أنهم على صراط الله السوي، حيث جاء سيد المرسلين هادياً إليها.