
لتقديم ما يتناسب مع ما تم ذكره آنفاٍ خاصة البدايات الأولى لظهور التمردات الشعبية تم الإبحار في أكثر من ذاكرة وطنية نضالية كانت
مذكرات سعادة السفير السابق المناضل الجسور/ محسن ناجي بن ناجي أكثر تناغماٍ من حيث التسلسل التاريخي وتطابق الرد الشعبي لمواجهة
جنون وبطش النظام الاستعماري «المستبد» يستهل سعادة السفير السابق المناضل محسن ناجي بن ناجي حديثه عن الانتفاضات والحركات
الشعبية بحسب كتابه الموسوم بـ«مذكرات محسن ناجي بن ناجي» قائلاٍ: عندما أراد الانجليز التخلص من الحكام المحليين وكسب رؤساء
القبائل بقصد تعاونهم لإزاحة هؤلاء الحكام كان باعتقاد رؤساء القبائل أنهم سيستفيدون من ذلك وسيكون وضعهم أفضل ويبقون دون
رقيب.
وتتوطد علاقتهم مع المستشارين الانجليز ولم يدركوا نوايا وأهداف المستعمر الذي يريد مد نفوذه المباشر دون واسطة ولم تستمر فترة الرد
بين بعض شيوخ القبائل والمستشارين الانجليز إلا فترة قصيرة لأن المهمة التي كانت مطلوبة من الشيوخ انتهت بإقصاء بعض الحكام
المحليين.
وهذا ما جرى في كثير من المشيخات والإمارات وفي منطقة الضالع كان لتعيين المستشار الانجليزي عبدالله ديفي الذي سبق وعمل مستشاراٍ
لإمارة بيحان وكان يقال أنه اعتنق الإسلام وتزوج بامرأة عربية في بيحان كان لذلك التعبير ردة فعل شكلت منعطفاٍ جديداٍ في بداية طريق
الرفض والمعارضة حيث كان المستشار ديفي ينفذ الإجراءات بنفسه.
وعند مقابلته لأي شخص يختلف معه بالرأي كان ينهال عليه بالشتم ويسرد سعادة السفير محسن ناجي بن ناجي في مذكراته حكاية ذلك
المستشار مع أحد المشايخ قائلاٍ: حدث بين ديفي والشيخ محمد عواس خلاف فأرسل ديفي طلباٍ للشيخ عواس فرفض الأخير خوفاٍ من
الاعتقال وتوجه ديفي مع ثلاثين جندياٍ من حراسته من المجندين العرب فيما كان يسمى «شبرا» وبعض من الحرس الخاص المحلي لإمارة
الضالع لاعتقال الشيخ محمد عواس وكان ديفي يحمل مجموعة من الحبال لربط الشيخ عواس وسوقه إلى مدينة الضالع ليجعل منه عبرة
وذلك لإرهاب الآخرين وعندما علم الشيخ محمد عواس بقدوم ديفي أرسل أحد أصدقائه لمعرفة ما يريد إلا أن ديفي أبقى المرسال عنده
وعند وصول ديفي إلى مساحة خاصة بالشيخ عواس طلب منه تسليم نفسه فرفض وأطلق الرصاصة الأولى من بندقيته على المستشار
الانجليزي وأصابه في صدره فرد حرس ديفي بإطلاق النار واستشهد الشيخ محمد عواس في الحال.
ويواصل سعادة السفير حديثه: بعد تلك الجريمة التي راح ضحيتها أحد شيوخ المنطقة كنا نتحدث للجنود الذين يعملون مع الانجليزي أنه لا
يجوز خدمة المستعمر وما يقومون به من قتل إخوانهم كان ردهم أن الظروف التي تدفعهم إلى ذلك للحصول على لقمة العيش.
ويؤكد معالي السفير مقتل المستشار الانجليزي ديفي برصاص مرافق الشيخ محمد عواس في الوقت نفسه ْقتل المرافق ويدعى مقبل
الخضري برصاص المستشار ديفي كان ذلك يوم الأربعاء 1947/4/16 ويواصل حديثه: لقد انتهى ديفي واستشهد الشيخ محمد عواس
ومقبل الخضري ووصلت جثة ديفي إلى مدينة الضالع وكانت لنهايته صدى واسع في المنطقة كنهاية أي مستبد ظالم متكبر وبنهايته انتهت
بعض المشاريع الاستعمارية.
أبين ومقاومة الاستعمار
عن بوادر المقاومة الأولى في محافظة أبين يحدثنا المناضل/ ناصر صالح جبران قائلاٍ: كان أبناء أبين وعلى وجه الخصوص المناطق
الوسطى كان يميلون إلى مقاومة أي دخيل وقد ارتبطوا بالمقاومة غير المنظمة متخذين من محافظة البيضاء مرتكزاٍ ومنطلقاٍ لهم لإمدادهم
بالسلاح لمقاومة المحتل وكثيراٍ كانت مراكز الأمن تتعرض للرصاص بالإضافة إلى المراكز الإدارية وكانت المقاومة تزيد وتضعف على
ضوء العلاقة القائمة بين النظام الإمامي في الشمال والمستعمر البريطاني في محمية عدن الغربية.
وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بدأت القوات الاستعمارية تفرض سيطرتها على مناطق مودية ولودر وتضمها إلى نفوذها وجعلها
تحت سيطرتها وفي عام 1948م وجهت القوات البريطانية بإخضاع منطقة الوضيع ونواحيها وكان يقود هذه القوات عبدالله حسن مضفر.
إلا أن أبناء الوضيع تصدوا لهذه القوات ودارت معركة بين الجانبين في منطقة “البطان وكان في طليعة المقاومين علي بن ناصر جبران
والشيخ أحمد الجفه والشيخ امصحفة وقتل في هذه المعركة العديد من الجانبين ولعدم تكافؤ الطرفين فقد سيطرت القوات الاستعمارية على
المنطقة وضمتها إلى سلطتها المباشرة.
وكل تبعات هذه القضية استدعي السلطان عبدالله بن عثمان الفضلي من قبل السلطات الاستعمارية وعقد لقاء للسلطان مع مندوب السلطات
الاستعمارية في منطقة اللواط القريبة من قرية الخديرة حيث حكمت السلطات الاستعمارية على المشايخ المقاومين كما أصدرت أحكاماٍ ضد
المتسببين قضت بهدم حصن علي بن ناصر جبران وحصن محمد امصحفه وحصن محمد الجفه وبما أن حصن الأول من المعالم التاريخية
فقد طلب السلطان عبدالله بن عثمان الفضلي استبداله بمنزل آخر لأحد أخوان الشيخ علي بن ناصر جبران وقد حضرت ذلك مجاميع من آل
بليل.
وقد هدد أحد الحاضرين القوات الاستعمارية أن الذين واجهوهم ليس إلا العدد القليل وبعد أن أخضعت بريطانيا المحمية الغربية لعدن لن يهدأ
أبناء المنطقة الوسطى للمقاومة وفي الخمسينيات لجأ العديد من أبناء المنطقة إلى البيضاء وكان على رأسهم عمر سالم الرماني من العواذل
وحسين عبدالله المجعلي ومحمد ناصر الجعدي من منطقة دثينه ومن آل فضل مجاميع من آل بليل والنخعين ولاشتداد مقاومة هؤلاء غير
المنظمة لأن السلطات الاستعمارية وأعوانها من السلاطين رأوا اتخاذ إجراءات صارمة فقامت طائرات الهوكرهنتر البريطانية بقصف
منطقة امسحال عام 1957م وضرب منطقة في جبل فحمان المشرف على مدينة موديه ولكي يتم إخضاع قبلته أرسل السلطان قبائل آل
بليل لقتال النخعين الخارجين عن الطاعة بمفهوم السلطان آنذاك وفعلاٍ لبت قبائل آل بليل نداء السلطان وحضرت في موكب إلى منطقة
أمصرة وكان في استقبالهم السلطان نفسه وعند وصول الموكب الذي كان يتقدمه الشيخ/ علي بن حيدره امطريقي كان الموكب يردد زاملاٍ
للشيخ علي بن ناصر جبران والذي يقول:
مانا سلامي مالما البارق
وأصبح علي الشعاب تدكو به
يادولتي هذا غلط منكم
ماحد يقطب من ذيل ثوبه
وعند سماع السلطان الفضلي هذا الزامل الذي أحدث أثراٍ في نفسيته قام بإسناد قضية النخعين إلى صاحب الزامل وتم الحكم بالمصالحة.
ويواصل المناضل ناصر صالح جبران بالقول: لقد أشرنا سلفاٍ أن أبناء إلى المناطق الوسطى عرفوا في أربعينيات وخمسينيات القرن
الماضي بميلهم إلى المقاومة إلا أن تلك المقاومة شابها الكثير من العفوية وعدم التنظيم وتحديد الأهداف لذا فإنه عندما كانت تقوم هنا كانت
تخمد هناك وهكذا استمر الحال حتى قيام ثورة 26 سبتمبر الخالدة التي اعتبرت القاعدة التي قام عليها نضال أبناء المحافظات الجنوبية
حيث وجدوا فيها المسند القوي الذي نقل مقاومتهم العفوية إلى العمل الفدائي المنظم والمبرمج إذ اتخذ العمل الفدائي النظامي بعد ذلك منحي
آخر تمثل في التنظيم وتحديد الأهداف ومنهجية العمل.
المقاومة والعقاب
عن أهم نتائج المقاومة المنظمة وأبرز صور العقاب التي نفذتها السلطات الاستعمارية في حق المناضلين بعد أن سلكت في نضالها طريق
المنهجية والتنظيم للعمل الفدائي خاصة بعد قيام ثورة الـ26 من سبتمبر الخالدة يقول المناضل جبران: في بداية الخمسينيات شهدت المناطق
الجنوبية ومنها المنطقة الوسطى بأبين تزايداٍ في لهيب الفعل الوطني حيث تصاعدت طرق المقاومة ضد الاستعمار وكان لإذاعة صوت
العرب من القاهرة بعد ثورة 23 يوليو 1953م بزعامة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر دور كبير في
إلهاب الحماس الثوري وكانت تعليقات الإعلامي احمد سعيد الزاد الذي يتزود به الفدائيون كما أن ثورة يوليو كانت زخماٍ جارفاٍ فانتشرت
النقابات والجمعيات الوطنية والأندية الرياضية وبدأ بروز الأحزاب السياسية وتفاعل العمل الوطني وكان لحزب رابطة أبناء اليمن السبق في
إعلان المطالبة بالتحرير وتبعته أحزاب أخرى منها حزب الشعب الاشتراكي عام 1960م وتأسست فروع حركة القوميين العرب في أواخر
الخمسينيات وكان من طلائع المنضمين إليها من أبناء المناطق الوسطى حسين محمد الجابري ومحمد علي هيثم والخضر عبدالله الجعدي
وعلي ناصر محمد وغيرهم وبدأ تشكيل الخلايا التنظيمية وقد بادرت أعداد كبيرة من أبناء الجنوب لنصرة ثورة سبتمبر ضد الملكيين وبهذه
الثورة الخالدة توحدت جهود أبناء الجنوب وانتقال مقاومتهم من العفوية غير المنظمة التي سادت في الأربعينيات والخمسينيات إلى العمل
المنظم المبرمج وانتقل النضال إلى أرقى أشكاله من خلال النضال المسلح الذي تبنته الجبهة القومية لتحرير الجنوب والتي كانت الإطار
التنظيمي والمسلح للنضال في الشطر الجنوبي آنذاك.
وفي 14 أكتوبر بدأت الطلقات الأولى للثورة من قمم جبال ردفان الشماء وقادت الجبهة القومية نضالا فاصلاٍ وكان للشعر دور كبير في
إذكاء الحماس حيث قال الشاعر ناصر عبدمكرش في قصيدة له عام 1964م.
حطت من البيضاء حجار الواقعة
حطت بقوتها وشدة بأسها
لا بد من دق العجوز الكاهنة
دق التلف حتى توطي رأسها
برع من أقطار الجنوب المحمية
برع من بلاد العرب يالنجاسها
وتفاعلت وتزايدت العمليات الفدائية وضرب مراكز السلطات في جميع جبهات القتال جبهة ردفان جبهة فحمان جبهة عدن كانت لنكسة يونيو
1967م عامل مهم في دفع النضال إلى أعلى مراتبه وكان الرد الحاسم من فدائيي الجبهة القومية بالاستيلاء على مدينة كريتر في 20 يونيو
1967 ولمدة زادت عن أسبوعين وكان ردود الأفعال قوية تمثلت في زعزعة الأوضاع في عدن الأمر الذي دفع بريطانيا إلى تقديم موعد
الاستقلال الذي تحقق في نوفمبر 1967م.
عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م قال المناضل محسن ناجي بن ناجي في مذكراته: لم يكن اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963م من
جبال ردفان الشماء وليد الصدفة بل كان حصيلة ظروف موضوعية وذاتية أدت إلى انطلاقها… بالشكل الذي سارت عليه حيث توفرت عدة
عوامل جعلت منها بداية ناجحة مكنت الجبهة القومية من إعلان الكفاح المسلح ومن هذه العوامل:
وجود تنظيم منضبط ومتماسك لفرع حركة القوميين العرب في اليمن قيام ثورة الـ26 من سبتمبر في شمال اليمن وجود الجمهورية العربية
اليمنية.
لقد افزع انطلاق ثورة 14 أكتوبر بريطانيا وأعوانها وبدأ الصراع في الميدان بين الجبهة القومية والحكومة البريطانية في المجالات العسكرية
والسياسية واتخذت الحكومة البريطانية عدة إجراءات ضد جبهة القتال في ردفان وذلك بقصد ضرب الثورة في مهدها وعدم إعطاء فرصة
للجبهة القومية لامتداد الثورة إلى ساحات الجنوب واستمرت الجبهة القومية في دعم جبهة القتال في ردفان وفتح جبهات قتال جديدة بقصد
تحقيق الضغط على ردفان وامتداد الثورة إلى ساحة الجنوب رغم الظروف والصعوبات التي واجهتها الثورة منذ انطلاقتها خلال مسيرة
النضال إلى أن تغلبت عليها حتى تحقيق النصر.
