(الحلقة الثانية)
شاهدت تعز قاعدة للثورة والصمود والمقاومة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني
كنت من طلائع الفدائيين بقيادة” سالمين” ممن تدربوا في تعز..وهذا سر اعتقالنا في زنجبار
حوار/ عبد الحليم سيف
◄ ثورة الرابع عشر من أكتوبر سنة آلف وتسعمائة وثلاثة وستين ميلادية تمثل لحظة فارقة في حياة اليمنيين الذين انصهروا في بوتقة واحدة وخاضوا المعارك البطولية في كل سهل وواد وجبل ومدينة وقرية لتحرير جنوب الوطن اليمني من أسر الاحتلال البريطاني ..كانوا في خندق واحد من مختلف أنحاء اليمن لم يسأل أحدهم رفيقه في السلاح والكفاح .. “من أين أنت ¿!” وما هي قبيلتك أو منطقتك !¿ ولماذا جئت إلى هنا ¿! أنت شمالي أم جنوبي!¿ وغيرها من علامات الاستفهام النكرة التي يلوكها بعض المرضى اليوم..واآسفاه !!.
إن المئات ..لا بل الآلاف من ذينك الجيل الذهبي.. جيل الفداء والأحلام الكبيرة نتذكرهم اليوم بعد مرور خمسين عاماٍ من الثورة الخالدة ..واحسب أن من حقهم علينا أن نحييهم بحرارة .. ونترحم على من استشهد أو رحل بعد حياة حافلة بالعطاء والبذل .. ولمن مازال يعيش بين ظهرانينا ندعو له بدوام الصحة وطول العمر º لأنهم جميعا قاتلوا من أجل حرية واستقلال ووحدة الوطن دون أن يأخذوا شيئا.. ومن هؤلاء المناضل والسياسي والإعلامي والنقابي الأستاذ سالم محمد باجميل .. الذي عاش الساعات والأيام الأولى لاندلاع شرارة 14 أكتوبر 1963 من جبل ردفان.. وهو يتذكرها الآن وكأنها حدثت بالأمس القريب.. تلك اللحظة هي إعلان البيان الأول “للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل” عبر إذاعة تعز.. وكان باجميل وقتها معلماٍ في زنجبار.. وبعد أيام يترك مدينته ومهد طفولته متوجها إلى مدينة تعز مع ثلة من طلائع الفدائيين بقيادة المناضل سالم ربيع علي “سالمين” ليلتقي هناك بالمئات من شباب ثوري جاءوا للتدريب على العمل الفدائي والسياسي والعسكري.ليعود مع رفاقه إلى معتقل زنجبار ..! لكنه يخرج سريعا إلى ساحة العمل الفدائي في الداخل ..قبل أن يتوجه مجددا إلى تعز ليشارك في المؤتمر التأسيسي الأول للجبهة القومية.
..فكيف كان شكل الظروف التي عاشها خلال الأربع سنوات من عمر الكفاح المسلح ¿! ما هي الأسباب الحقيقية من رفض عملية الدمج بين “القومية” و”التحرير” وكيف حدث الانسلاخ .. ثم الاقتتال الأهلي بين الجبهتين في الفترة الأخيرة الحاسمة قبيل الاستقلال¿! ما هدف انحياز “الجيش الاتحادي ” للجبهة القومية ¿! وكيف كانت مشاعر الشعب والقوى السياسية غداة 30نوفمبر1967 ¿ وما التصورات والمواقف حيال دولة ما بعد الاستقلال ¿وأسباب انقلاب 20 مارس 1968¿
هذه الأسئلة هي محور “الحلقة الثانية “من حوار الذكريات مع الأستاذ سالم باجميل العضو والقيادي البارز في الجبهة القومية في تلك المرحلة .. وهو أحد الذين ذهبوا إلى دار الرئاسة في عدن للوساطة بين “قحطان” و”سالمين” وكان هناك -أيضا- بعد يونيو 69 يتابع ما يجري داخل كواليس السياسة والسلطة..مشاركا وشاهد عيان لما جرى .
عودة الروح
* فلنبدأ معه من اللحظة الاحتفالية الراهنة باليوبيل الذهبي لثورة 14 أكتوبر.. ماذا تعني هذه المناسبة للأستاذ سالم باجميل المناضل والسياسي والصحافي ..وقبل ذلك الإنسان ¿
– بالفعل لحظة الاحتفاء باليوبيل الذهبي لثورة 14 أكتوبر 1963م تعني بالنسبة لي كمناضل عودة روح الثورة إلى الزمان والمكان والإنسان.. وكم أفزعني حجم ما تراه عيوني من التدمير والتخريب لمكاسب وانجازات الثورة اليمنية (26 سبتمبر 1962 ـ و14 أكتوبر 1963م) وفي مقدمات هذا التخريب والتدمير دعوات الانفصال من جنوب وشمال الوطن اليمني..إن الثورة اليمنية يا صاحبي تعد بالنسبة لي ولجيلي من اليمنيين بمثابة ميلاد آخر.. وهي من علمتني السياسة والصحافة وليس لها عندي إلاِ المزيد من الحب والتقدير..ولا يسعني هنا إلا أن أناشد سلطة التوافق السياسي الحاكم أن تعطي جل اهتمامها لاحتفالية اليوبيل الذهبي لثورة 14 أكتوبر 1963م وأطالبها بالتفات إلى ما تبقى من مناضليها وان تحيطهم وأبناءهم بالرعاية الشاملة هم وسائر مناضلي الثورة اليمنية قاطبة.
تعز قاعدة الثورة
* ما الذي تتذكره من صور الأجواء التحضيرية لثورة 14 أكتوبر.. وما الدور الذي قمت به ¿
– ما أذكره جيداٍ أن قيادة حركة القوميين العرب كرمتني بأن أكون أحد أفراد طلائع الفدائيين الذين ينبغي أن يأتوا إلى تعز في تلك الأيام للتدريب العسكري والسياسي.. وشكلت فرقتنا برئاسة المناضل سالم ربيع علي وعضوية كلا من :علي صالح عباد (مقبل) وناصر علي صدح ومحمد علي عريم وعلي فضل بن نعم وعبدالله عبودة بن همام ومنصور عبدالله امطلاه وعبدالقادر سالم سنان وأحمد سالم سعد وسعيد ناصر سنان وآخرين.. ورغم مرور كل هذه السنوات مازلتْ أتذكر كيف كانت مدينة تعز في ذلك الوقت عاصمة وقاعدة الثورة اليمنية ورمز المقاومة والصمود ومحفوفة بأناس مفعمين بحب اليمن والعرب ومؤمنين بإرادة الثورة والتغيير والوحدة الوطنية والقومية.. لكن شيئاٍ ما حدث لم يكن في الحسبان .. فبعد أن تدربنا غادرنا تعز في طريق العودة إلى أبين وما أن وصلنا زنجبار .. حتى تم اعتقالنا من قبل السلطات أدخلونا السجن .. ولم يطل بنا المقام في السجن .. فقد أسعدنا أن أهلنا كانوا معنا في محنتنا شدوا كثيراٍ من أزرنا وشعرنا أن جميع سكان أبين هم أهلنا..ولما فصلنا من أعمالنا وجدنا فيهم من يهون علينا وقع ذلك ويقول لنا: أصبروا على قليل من الابتلاء لعل الله أن يجعل على أيديكم كثيراٍ من الخير.
لماذا 14 أكتوبر¿
* في ضوء ما ذكر عن اختيار 14 أكتوبر 1963كيوم لإعلان الثورة .. قال سعيد محمد الأبي للزميل صادق ناشر في حوار نشرته صحيفة (الخليج) الإماراتية في 17 أكتوبر 1997م أن مدينة تعز شهدت سلسلة اجتماعات وحوارات وطنية بين الأطراف السياسية في البلاد للتحضير للثورة.. وفي لقاء عقد بمنطقة (الأعبوس)أقر المجتمعون تسمية (الجبهة) التي ستقود الكفاح المسلح (الجبهة القومية) من حيث المبدأ على أن يتم تغيير هذه التسمية في حال نجاح أية حوارات وطنية مع أي أحزاب وحركات سياسية أخرى تعمل لنفس الهدف وهو إسقاط الاستعمار البريطاني في الجنوب.. لكن استشهاد المناضل راجح بن غالب لبوزة في 14 أكتوبر 1963م في ردفان.. جعلهم يتخذون هذا اليوم تاريخاٍ لبدء الثورة وهذا ما أعلنه البيان الأول للثورة الذي بثته إذاعة تعز باسم الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل..هل لديك تفاصيل عن تلك التطورات¿
– يقول الآباء والأجداد أن كل واحد يخبر من حيث أتى ..ولا تعليق لي على ما قاله المناضل المرحوم سعيد محمد الأبي المعروف بالاسم الحركي (عبد الوارث) ولكن تاريخ قيام ثورة 14 أكتوبر 1963م فيه أقوال كثيرة.. وكذلك هو تاريخ نضال الجبهة القومية.. وأنا وأولئك المتحدثون لسنا بمؤرخين وإنما نحن نقول شهاداتنا على التاريخ من مواقعنا فلنا العذر في خلافاتنا واتفاقاتنا.. إن قيادة الجبهة القومية جعلت من حادث مواجهة بعض قبائل ردفان بقيادة راجح بن غالب لبوزة مع إحدى كتائب الانجليز المرابطة في المنطقة مناسبة لإعلان انطلاقة ثورة الكفاح الشعبي المسلح بقيادة الجبهة القومية..وفي تقديري أن قيادة القوميين العرب بعد أن تعرفت على الضرورات السياسية والوطنية لقيام الثورة قامت بمشاورات مع قيادات الأحزاب والتنظيمات في عدن وتعز والقاهرة ولكن جميع قيادات التنظيمات والأحزاب كانت تراهن على وعود بريطانيا في منح الاستقلال عام 1968م إلاِ حزب عبدالله عبد الرزاق باذيب (الاتحاد الشعبي ) الذي بارك قيام ثورة الشعب ووعد بتوظيف طاقات ما لديه من شباب مثقف لتؤيد وتدعم الثورة وقد كان ورفاقه من أهل الوفاء.
بعد الاعتقال
* نعود إلى العمل الفدائي في عدن ما هي ذكرياتك ودورك في السنوات الأولى من الكفاح المسلح ¿
– سبق وأن قلت لك إنني تدربت مع آخرين على العمل العسكري والسياسي الفدائي في مدينة تعز في سبتمبر عام 1964م وعدنا لنواجه الاعتقال والسجن ومن ثم الفصل وكان معظمنا مدرسين في مدارس أبين.. وفي منتصف عام 1965م دعينا من قبل القيادة في أبين وقيل لنا إنه قد جاء لنا طلب من قيادة الجبهة القومية في عدن تطلب منا الحضور إليها .. وأن هناك ترتيبات جديدة لي وللأخ عبد الله عبودة همام ومنصور عبدالله امطلاه.. وفي عدن قابلنا المناضل فضل محسن عبد الله وكنا ضمن فرقة بقيادة الحسني وفي اعتقالات 9 سبتمبر 1965م اعتقل الحسني واعتقل منصور عبد الله امطلاه واختفى عبد الله عبودة همام وطلب مني التوجه من جديد إلى مدينة تعز.
الميثاق الوطني
* ولماذا تعز هذه المرة ¿
– مدينة تعز في تلك المرحلة تعيش ثورة الشعب المسلحة حيث بدأت محاولات التفاف والتآمر عليها وعلى قياداتها من الخصوم في الداخل والأصدقاء في المحيط العربي.. ورفع وقتها شعار من قبل الجهاز العربي المصري المتواجد على أرض اليمن لمساعدة الثورة اليمنية جسدته فكرة: (أنا وابن عمي على الغريب).. ولم يعط لقيادات الجبهة القومية الوقت الكافي للتعبير عن الآراء الحقيقية لفكرة توسيع إطار الجبهة القومية أو استبدالها بجبهة التحرير..المهم في تلك الأيام كانت تعز تعيش أجواء التحضيرات الخاصة بعقد المؤتمر الأول للتنظيم السياسي الجبهة القومية قائدة ورائدة الكفاح الشعبي المسلح يعتبر محطة سياسية وتنظيمية هامة في مسارات ثورة الـ 14 من أكتوبر 1963م اللاحقة حيث خرج المؤتمر بإعلان وثائق وأدبيات مثلت مواجهات عامة لنضال الجبهة المستقبلية وفي مقدمة ذلك الميثاق الوطني الذي حدد خيارات الثورة السياسية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية ورسم الأهداف القريبة والبعيدة للثورة. ومن ضمن ذلك تحقيق الوحدة اليمنية كخطوة لابد منها على طريق الوحدة العربية.. هذا ناهيك عن قرارات وتوصيات المؤتمرين بخصوص ترشيد وتحسين أداء العمل التنظيمي والسياسي والفدائي على ساحة جنوب الوطن اليمني المحتل.
ترف “اليمين” و” اليسار”
* أستاذ باجميل .. انعقد أول مؤتمر للجبهة القومية في تعز للفترة من 12 ـ 21 يونيو 1965م أي بعد سنة وثمانية أشهر من تجربة الكفاح المسلح.. ويقال إن صراعات مبكرة داخل الجبهة برزت وقتذاك بسبب نهج سياسة تيار وصف “باليميني” عمل على إعاقة الكفاح المسلح في الداخل مما جعل التيار الذي عرف”بالتقدمي”من إقصاء قيادات قيل إنها مهيمنة على قيادة الجبهة وتشكيل قيادة بديلة.. ما جذور الصراعات¿ وما مظاهر امتداد الخلافات إلى صفوف قواعد الجبهة والمقاتلين والفدائيين¿.
* عندما حدثت الخلافات بين ما يسمى بـ”اليسار واليمين” التي سادت لفظياٍ في المؤتمر كانت قد بدأت بشكل محدود ثم انتشرت على استحياء بين أفراد الصف القيادي الأول.. وكان مجرد انعكاس لما يجري في المركز القيادي في حركة القوميين العرب.. أما ما كان يجري في الساحة اليمنية من أعمال نضالية سياسية واجتماعية فإن الجميع كان حولها موحدين في الرؤية والعمل.. وكان قحطان محمد الشعبي وفيصل عبد اللطيف على قدر عظيم من المعارف في القيادة التنظيمية والتمسك بروح كفاح الشعب اليمني في جنوب الوطن وشماله..وأتذكر أن الكثير من قيادات العمل التنظيمي والفدائي في الداخل كان ينظر إلى خلافات اليسار واليمين كترف فكري ليس له ما يبرر وجوده بين صفوف المناضلين في اليمن.. ولكن كان له ما يبرره في الجزء الآخر من الوطن حيث وجود السلطة والمعارضة.. وفي تقديري أن هذا كان أحد الأسباب الرئيسة لتسويق خلافات قيادة حركة القوميين العرب في اليمن حيث ألقت بظلالها الشديدة العتمة على وجود الثورة اليمنية بصورة عامة.
الدمج والانسلاخ
* لو تحدثنا عن الحوار الوطني حول قضية الكفاح المسلح قبل أن يبدأ..ونعود في هذا الشأن إلى ما قاله الأستاذ محمد سالم باسندوة للزميل حافظ البكاري في(حديث الذكريات) المنشور في صحيفة (عكاظ) السعودية يوم 24 نوفمبر 2002..من إن بعض من قادة حركة القوميين العرب قبل إنشاء الجبهة القومية عرضوا على حزب الشعب الاشتراكي فكرة تكوين تنظيم واحد يتولى تدشين وقيادة الكفاح المسلح.. ثم كرروا العرض بعدئذ.. إلاِ أن بعض زملاء الأستاذ باسندوة في قيادة حزب الشعب فضل النضال السياسي في تحقيق التحرر الوطني الكامل وحين أدرك المترددون عدم جدوى النضال السياسي والإحساس بأن الجبهة القومية قد أخذت تسحب الحصيرة من تحت أقدام الجميع فقرر قادة الحزب خوض الكفاح المسلح حيث نزحوا من عدن إلى تعز وهناك شكل الأستاذان محمد باسندوة وعبد الله عبد المجيد الأصنج ومعهما أحمد عبد الله الفضلي وجعبل بن حسين العوذلي وآخرون منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل.. هنا دعني أسألك عن رد فعل الجبهة القومية¿ وكيف أثر ذلك على سير معارك حرب التحرير في الريف والعمل الفدائي في عدن¿ وهل هناك تنسيق بين الجبهتين¿ ولكن الحوار تواصل بين الجبهتين برعاية مصرية أدى إلى (اتفاق الدمج) في 13 يناير 1966م وحدث انقسام بين قادة وقواعد الجبهة القومية انتهى بحل توافقي في المؤتمر الثاني للجبهة المنعقد في جبلة في نفس العام.. هناك آراء متضاربة حيال تلك الأزمة خاصة حول مواقف بعض قادة الجبهة القومية … ما هي الحقيقة كما عشتها عامئذ¿.
* كلام الأستاذ محمد سالم باسندوة فيه قدر كبير من المصداقية ..ولكن إخراج عملية الدمج بذلك المستوى من التعسف جعل قيادات الجبهة القومية أما أن تلجأ إلى الرفض الصريح أو القبول الشكلي بمظلة جبهة التحرير..وعملت على إحداث إعادة تنظيم جديدة في صفوف العمل السياسي الشعبي والعمل الفدائي.. وكانت قيادة العمل الفدائي في الداخل تنسق مع قطاعات واسعة من أعضاء التنظيم الشعبي وجبهة التحرير في بعض العمليات لاسيما بعد موقف قيادات الجيش والأمن العام الرافض للانخراط في مؤامرة استلام الحكم التي لوح بها البريطانيون حالما أحسوا بوهج اشتعال الثورة يقترب منهم شيئاٍِ فشيئاٍ.. ففي انتفاضة عشرين يونيو 1967م وسيطرة الفدائيين على كريتر كان هناك تنسيق بين الجبهتين إلا أن عناصر من جبهة التحرير خرقت ذاك التنسيق عندما أقدمت على اغتيال الشهيد عبد النبي مدرم عليه رحمة الله وحاولت تلك العناصر إحراق جثمانه الطاهر بعد أن حرضت العامة على سحله.. غضب فدائيو الجبهة القومية جراء هذه الفعلة الشنعاء .. وكان أن ردوا دون الرجوع إلى القيادة بإجراء عمليات انتقامية رادعة .
ويضيف:
المهم في هذه المسألة يمكنني القول إن عملية الدمج في 13 يناير عام 1966م وبالطريقة التي تم بها قد أوجدت تحفظات لدى قيادات الجبهة القومية مع منظمة التحرير من ضمنها تحفظ الجبهة على عدم كشف قياداتها الميدانية وقواعدها للقيادة المشتركة وأثبتت التجربة الملموسة فيما بعد صواب وصحة ذلك الإجراء..ما كان سالم زين وطه مقبل يتقدمهما علي أحمد السلامي وآخرون من قيادات الجبهة القومية البارزين من الذين هرولوا مع رغبة قيادة الجهاز العربي المصري الموجود في اليمن بهدف مساعدة الثورة والجمهورية واستجابوا استجابة سريعة لإلحاح منظمة التحرير بدون النظر الحصيف إلى ما يشتمل عليه قرار الاندماج مع منظمة التحرير بكامل ما فيها من تناقضات جعل قيادة الداخل في الجبهة القومية تحرص على إعطاء قياداتها في الخارج المنقسمة فرصة للتعبير عن آرائها في المؤتمر الثاني للجبهة القومية الذي عقد في يونيو 1966م.
والحقيقة كما اعرفها أن هناك تمردات تنظيمية حصلت من قيادات الصف الأول وأن توزيع أدوار قد تم في القيادات الأخرى بعضها كان يحاور في تعز والقاهرة والبعض كان يعمل على إعادة تنظيم صفوف المناضلين السياسيين والفدائيين وبذلك تسنى للجبهة القومية أن تكون في المستقبل القريب صاحبة موقف حاسم في تحديد مستقبل جنوب اليمن.
* وماذا يعني تراجع الجبهة القومية عن عرضها السابق الذي أشار إليه الأستاذ باسندوة¿.
– الجبهة القومية لم تتراجع عن عرضها لقيادتي حزب الشعب الاشتراكي والبعث لكن قبولهما جاء متأخراٍ وبعد أن تم تأطيرهما مع السلاطين وبعض المستوزرين ورابطة أبناء (الجنوب العربي) وبعد أن تأكد انتصار الجبهة القومية قائدة ورائدة الكفاح الشعبي المسلح..لقد أثبت تطور الأحداث فيما بعد صحة مخاوف الجبهة القومية وسلامة موقفها الرافض صراحة أو ضمناٍ للاندماج.
* تريد أن تقول إن إجماعاٍ قد حدث في المؤتمر الثالث للجبهة القومية المنعقد في قرية (حمر) في قعطبة في نوفمبر 1966م حول قرار الانسلاخ عن جبهة التحرير¿ أم هناك أسباب غير معروفة حتى اليوم ¿.
– عندما أعلنت الجبهة القومية انسلاخها من جبهة التحرير فإن قرارها ذاك لم يأت هكذا صدفة وإنما جاء بعد أن تجاوزت المعاناة القطاعات الشعبية والفدائية حدود الصبر والمعقول جراء استفزازات مجاميع من العناصر المحسوبة على عبدالله الأصنج التي وصلت في استهتارها إلى سفك دماء وإزهاق أرواح مناضلي الجبهة القومية في القطاع التنظيمي الشعبي والفدائي.. ومن الأسباب غير المعروفة سعي بعض عناصر جبهة التحرير للتنسيق مع أعضاء الجهاز الخاص للإيقاع بمناضلي الجبهة القومية وتسهيل إلقاء القبض عليهم من قبل سلطات الاحتلال البريطاني.. وما خفي كان أعظم.
الدعم المصري
* وهل هناك تأثير للجهاز العربي المصري في اليمن حينذاك على الحوار بين الجبهتين.. وماذا دور مصر عبد الناصر في دعم ثورة اليمن ومعركة حرب التحرير منذ عملية” صلاح الدين “في تعز كما عشته¿.
* أنا كنت متواجداٍ في القطاع التنظيمي والفدائي في الداخل وليس لي علاقة مع الجهاز العربي المصري بكامل إيجابياته وسلبياته في علاقة الجبهة القومية مع الزعيم جمال عبد الناصر.. لكنني اعلم بأقدار الرجال منهم في وقفتهم مع الثورة والجمهورية في شمال الوطن وكذلك مساعدتهم لمناضلي الجبهة القومية وكذلك مناضلي جبهة التحرير في جنوب الوطن ولا ينكر اختلاط دماء المصريين مع دماء اليمنيين إلاِ ضال أو خائن أو عميل أعماه جهله عن رؤية حقائق الأمة والتاريخ ..أنا واحد من الآلاف الذين شاركوا في معارك تحرير جنوب الوطن بسلاح الكلمة والبندقية.
علاقة الفدائيين بالشعب
* وماذا تقول عن العلاقة بين الفدائيين وأهالي ما كان يسمى بالمحميات¿
* العلاقة بين الجبهة القومية وقطاعات وأفراد الشعب في جنوب الوطن اليمني كانت طيبة وحميمة وكانت العلاقة في مدينة عدن وسائر المدن والأرياف محفوفة بحب وتقدير الناس بلا استثناء ولولا ذلك ما استطاعت الجبهة القومية من الاقتراب من الوفاء بالمهام النضالية المنوطة بها في ذلك الوقت.. وأنني اعتبر أن كل أبناء شعبنا في جنوب الوطن قد احتضنوا الثورة وشاركوا ولهم فضل كبير في انتصارها.
* كيف تغلبت الجبهة القومية على العصبية القبلية وسياسة فرق تسد البريطانية¿.
– قامت شخصيات مناضلة وقبلية بمساعي حميدة في التعريف بمتطلبات مرحلة الثورة الشعبية.. وكيف يمكن للقبائل والعشائر أن تتجاوز سياسة فرق تسد التي انتهجتها الإدارة البريطانية في إحكام قبضتها على المنطقة.. ونجحت في تهدئة الثارات وتحاشت بذلك الانتقامات التي كانت تحصل بين الأهالي من وقت إلى آخر.
* حدثنا عن المواقف الصعبة التي عشتها¿.
– المواقف التي مرت بي في حياتي عديدة لكن أصعبها على الإطلاق كان ما واجهته والرفيق حسين عبدالله (ناجي) أثناء عودة لنا من أبين حيث فتش الجنود الانجليز السيارة التي كنا قد استعرناها من الرفيق عبد الرحمن عبدالله عيسى و بها متفجرات ورصاص F.N وجن جنون الجنود الانجليز وانهالوا علينا بالضرب بالأيدي وأعقاب البنادق والركل ومن ثم أخذنا إلى معتقل الـ D.B (الذي أطلق عليه اسم الفتح بعد الاستقلال) وفي المساء جاءت أوامر بأخذنا إلى معتقل مربط ولم نخرج إلاِ في الـ 30 من أكتوبر 1967م وكدنا لا نصدق عندما قيل لنا أنتم في صحة طيبة وبإمكانكم الخروج والحفاظ على حرياتكم الشخصية.
حسابات خاطئة
* ما قصة انحياز الجيش الاتحادي للجبهة القومية¿.
– قيادات الجيش كان لها حساباتها في الصراع على استلام السلطة وربما تتخيل أن الجبهة القومية هي الطرف الأضعف في الساحة الذي يمكن أن يسهل التغلب عليه في ما بعد وهذا ما تجلى في تجربة حكم المناضل قحطان محمد الشعبي خلال التسعة الأشهر والسنة من خلال حركة عشرين مارس 1968م و14 مايو من ذات العام التي هاج وماج فيها الجيش والأمن العام في الساحة الوطنية ونكل واعتقل وشرد بعنف واسع بقيادات الجبهة القومية ولكنه لم يستطع أن يتخلص منها بسب التفاف وتأييد الشعب لها. ودارت الأيام ثم تسنى لها الخلاص من سائر إشكالاته.
اغتيال مدرم
* أستاذ سالم باجميل .. خاضت الجبهتان القومية والتحرير معركة الكفاح المسلح وما كادت الثورة تعلن انتصارها حتى اندلع (الاقتتال الأهلي) في الشيخ عثمان والمنصورة بين الجبهتين في يوليو وأكتوبر1967م برأيك ما هي الأسباب الحقيقية للصراع الدموي ¿ ومن يتحمل المسؤولية¿.
– الحرب الأهلية التي اندلعت في يوليو 1967م كان هدفها تحجيم الجبهة القومية إن كان ذلك بمستطاع جبهة التحرير لأن هذه الحرب كانت امتداد لاغتيال عبد النبي مدرم وإرهاب رفاقه.. أما الحرب الأهلية الثانية في أكتوبر فقد أشعل فتيلها إعلان بريطانيا تقديم موعد إعطاء الاستقلال إلى عام 1967م وكان تعنت واستفزاز عناصر الأصنج للجبهة القومية والجيش تعد من الأسباب المباشرة للحربين الأهليتين بامتياز ..لكن هذا لا يعني أن الإدارة البريطانية كانت بعيدة عن مسرح الأحداث.
موقف عبد الناصر
* ولماذا فشل الحوار بين الجبهتين في عدن وتعز ثم في القاهرة والإسكندرية برعاية الرئيس جمال عبد الناصر عشية ذهاب وفد الجبهة القومية إلى جنيف لبدء مفاوضات الاستقلال¿.
* غرور قيادات في جبهة التحرير وكذبها على نفسها وعلى حلفائها هو من أفشل حوارات تعز والقاهرة والإسكندرية وأخرجها من الشراكة في النضال والاشتراك في الحصول على الاستقلال الوطني.. وفي حدود علمي أن الزعيم جمال عبد الناصر أعطى لوفد الجبهة القومية والجيش الضوء الأخضر في الذهاب إلى جنيف والتفاوض مع الانجليز بشأن الاستقلال وكذا إقامة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. .
* خصوم الجبهة القومية مازالوا حتى اليوم يتهمونها بالعمالة للبريطانيين بسبب انفرادها بالاستقلال.. ما تعليقك¿.
* التاريخ لا يظلم أحداٍ إذا ظلمه الناس.. والجبهة القومية تبقى قائدة ورائدة الكفاح المسلح الذي سحب البساط من تحت أقدام زعامات العمل السياسي التقليدي فلا أعداء الجبهة القومية يستطيعون أن يمحوا نضالاتها الباسلة مع الشعب. ولا أصدقاؤها يستطيعون أن يمنحوها أدواراٍ لم تقم بها.. والجبهة القومية لم تنفرد بالاستقلال بل نالته مع قيادة الجيش التي دخلت معها كشريك أصيل في صراعها مع بريطانيا وأعوانها في آخر المطاف.
صدمة “الأشطل”
* أستاذ باجميل..”…لقد قرأت مقالا في صحيفة «المصير» قبل الاستقلال لأحد منا في الجبهة القومية يستغرب تسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بالعضو رقم 14 في الجامعة العربية لأنه كما يقول: لا يريد أن يكونوا هذه الدولة.. فلقد ناضل الشعب اليمني من أجل طرد الاستعمار وتوحيد اليمن.. تلك هي خيبة الأمل التي هزت مثل هذا الشخص الذي ذهب من صنعاء إلى حضرموت في مرحلة إسقاط المناطق لغرض التحرير والوحدة.. «هذا ما قاله الأستاذ المرحوم عمر الجاوي في مقالة له منشورة في الثقافة الجديدة ديسمبر 1989 ص 43» وهو يختزل صدمة الشعب اليمني من التأسيس لنظامي التشطير.. فكيف تقرأ ما جرى في ظروف تلك المرحلة¿
– كل تكوينات الجبهة القومية القيادية القاعدية كانت تناضل بقناعات سياسية واعية تربط في نضالها تجاه الاستعمار البريطاني وأعوانه ما بين التحرر والاستقلال وتحقيق إعادة الوحدة اليمنية.. لولا الظروف الذاتية والموضوعية المشار إليها في جوابي على سؤال سابق من المقابلة. وكأنما الصديق المرحوم عمر الجاوي يشير إلى الرفيق المناضل المرحوم عبدالله حسن الأشطل الذي تربطني به علاقة احترام وتقدير خلال خدمته الطويلة في مجال السلك الدبلوماسي.. وأنا أعده أحد دراويش الثورة اليمنية وهو صادق في اختياراته النضالية واستشهد بذلك على نزاهة نفسه ونظافة يده وحميته في الثورة ناضل مع اليسار إلى أن وصل اليسار إلى سدة الحكم ثم أثر الدراسة والعمل مع الجميع على إغراء المناصب في التنظيم والدولة.. رحمة الله عليه ما طلعت شمس كل يوم جديد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إعلام الثورة
* دعني أعود إلى الحديث عن موقف الإعلام (الصحافة والإذاعة) في اليمن إبان الكفاح المسلح..كيف كان دور إذاعتي صنعاء وتعز¿.
– الإعلام الوطني والقومي كان مع الثورة اليمنية (26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م) وإذاعتا صنعاء وتعز كانتا في تلك الأيام عبارة عن صوت الثورة المدني بشقيها: ما يجري بشأن الدفاع عن الثورة والجمهورية أو ما يخص الكفاح الشعبي المسلح وكذلك كانت صحافة اليمن الجديد (الثورة الجمهورية والشعب)..كل الإعلام الوطني والقومي قد ساهم في التحريض على الثورة والتجسيد الجماهيري للاشتراك فيها والذود عن مكاسبها وانتصاراتها.. تحية من أعماق القلب للزملاء الإعلاميين الذين عاشوا مرحلة التحرير الوطني في صنعاء وتعز والقاهرة والجزائر والعراق الذين مازالوا على قيد الحياة والرحمة للزملاء الذين قضوا نحبهم وهم مع قضايا شعوبهم.
* ماذا تقول عن دور صحافة عدن في تلك الأيام حيث كانت تصدر تحت حراب الاحتلال البريطاني¿ وما هي مواقفها من الثورة¿.
– صحافة نقابات العمال وحزب الشعب الاشتراكي كانت تناصر الثورة والجمهورية في شمال الوطن اليمني وتناهض ثورة الكفاح المسلح في جنوبه. وكان لصحيفة (الأيام وفتاة الجزيرة) موقف آخر حيث كانت كل من (الأيام وفتاة الجزيرة) تنقلان الأخبار بلا تحيز. وفي ابريل 1966م خرجت على الرأي العام في عدن صحيفة (الأمل) برئاسة عبدالله باذيب وكانت صريحة في موقفها من الثورة اليمنية ومناصرة لمساراتها العامة والخاصة بما فيها ثورة الكفاح الشعبي المسلح وكذلك كانت صحيفة المصير برئاسة عبد الله الحمزي.
* أستاذ سالم.. الذين أرخوا للصحافة اليمنية..أشاروا إلى صدور نشرات سرية ناطقة باسم الجبهة القومية وجبهة التحرير إبان الكفاح المسلح..حدثنا عن تجربتك وزملائك مع الصحافة السرية كما عاصرتها¿.
– في البدء كانت نشرة التحرير لسان حال الجبهة القومية وهي تصدر من مكتب الجبهة بتعز.. ولما تم اندماج الجبهة القومية مع منظمة التحرير استولت جبهة التحرير على المكتب والنشرة وجيرتهما لنشاطها.. الأمر الذي جعل الجبهة القومية تفكر في إصدار نشرات بديلة من جبهات النضال ولاسيما في عدن.. أنا ساهمت في حرس الفتوة كانت تصدر من التواهي والتلال الملتهبة من مدينة كريتر والمقاومة من الشيخ عثمان وكذلك الثوري كان لها وضع مميز بين نشرات الجبهة القومية في عدن.
* لو انتقلنا إلى ما بعد الاستقلال.. فما الذي بقي في ذاكرتك من صور الأيام الأولى من عمر الدولة الوليدة..وطبيعة الخلافات التي ظهرت حول نظام الحكم¿.
– ما أكثر الصور التي تحتفظ بها ذاكرتي العالقة بها من الأيام الأولى لعمر الدولة الوليدة على حد تعبيرك.. الشعب والحركة السياسية سعداء بالاستقلال الوطني ولديهم تحفظات حول طبيعة نظام الحكم.. وأبدأ من داخل التنظيم السياسي الجبهة القومية فريق يريد حكم البلد والاستفادة من الجهاز الإداري والعسكري اللذين خلفتهما الإدارة البريطانية وحكومة اتحاد الجنوب العربي.. وفريق آخر يريد من الاستقلال أن يكون جسراٍ يعبر عليه الشعب إلى يمن جديد موحد خال من الاستغلال والاستبداد.. ونجم عن الاختلاف والخلاف بين ما يسمى يسار الجبهة القومية ويمينها والذي أعطى لــعقداء الجيش فرصة ذهبية أغرتهم بالانقضاض على مناضلي الجبهة القومية لإضعاف سيطرتهم على مجريات الحياة الجديدة..وفريق ثالث ليس مقتنعا بمبررات إقامة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وكان يتطلع إلى الاستقلال والإعلان عن الوحدة اليمنية ولو من طرف واحد ودعوة الشعب والحركة السياسية الوطنية للنضال من أجل تحقيقها.. وكان هذا التيار أقرب إلى تيار النضال من أجل إيجاد يمن جديد تقدمي ولأنهما اتحدا معاٍ خلال مسارات التجربة الوطنية.
قنبلة بريطانية
* المعروف أن بريطانيا تركت عدن أمام خزينة فارغة..ما الذي تعرفه عن تنصل الحكومة البريطانية من التزاماتها..فيما يخص تقديم المساعدة المالية التي وعدت بها حكومة الاستقلال ¿.
– قبل أربعة أشهر من الاستقلال أقدمت الإدارة البريطانية على مؤامرة رفع رواتب موظفي حكومة الاتحاد العربي آنذاك لتضع قنبلة موقوتة في كيان حكومة الاستقلال الوطني.. وهذا ما تعرف عليه وفد الجبهة القومية في مفاوضات جنيف حيث رفض الوفد شروط إعطاء المساعدة جملة وتفصيلاٍ التي من ضمنها بقاء رمزي للقاعدة الجوية ولكن حكومة الاستقلال الوطني لم تستطع التخلص من تبعاتها إلى أن أطاحت بها الحركة التصحيحية في 22 يونيو عام 1969م.
انجاز ..وانفجار
* دعني أسأل عن أهم المكاسب والإنجازات التي حققتها حكومة الاستقلال في ظل ظروف مالية وسياسية صعبة ¿.
– حققت الاستقلال عن الإدارة البريطانية ودفن حكومة الاتحاد في رمال نسيان الزمن وأقامت على أطلالها نظام حكم مضطرب على جزء من الوطن اليمني لإدارة جيش الاتحاد وأمنه العام وله الكلمة العليا.. حاولت حكومة الاستقلال التخفيف من أعباء الأزمة المالية وعملت على تسيير ما تبقى في عدن من مؤسسات تجارية أجنبية ومحلية.. ولكن واقع حالها أفحمها وزاد من جرحها.. فذهبت إلى الريف تلتمس المدد الشعبي بواسطة إجراء إصلاح زراعي منقوص.. لكن إطلاق يد عقداء الجيش والأمن في البلد وهجومهم الغادر على مناضلي الجبهة القومية في 20 مارس 1968م واتهامهم في ذلك الوقت بالشيوعية جعل الشعب يتعاطف معهم.. الأمر الذي أثار حفيظة العقداء في الجيش والأمن العام.. ووجد لدى قحطان وجماعة ليست بالهينة في الجبهة القومية ميل إلى التواطؤ مع عقداء الجيش والأمن ومصلحة للتخلص من ضغوطات يسار الجبهة القومية فكان الاجتياح المشئوم يوم 14 مايو عام 1968م وصعود مناضلي الجبهة القومية إلى جبال يافع وكانت مسيرة شهيرة امتدت من عدن وزنجبار إلى يافع ثم إلى صنعاء وشهد العديد من قادة اليسار أحداث أغسطس المؤلمة في شمال الوطن.. كل هذا العجز في حكومة الاستقلال جعل خصوم الجبهة القومية يفكرون في القفز عليها..ولكن هيهات ..هيهات أن يتم ذلك.. حيث تراجع اليسار إلى مواقع الدفاع عن حكومة الاستقلال واستطاع الجميع رد كيد الكائدين. ومن هنا جاءت فكرة التصالح من أجل مصالح الوطن وسعى المختلفون عبر الحوار المحدود إلى التفاهم والتخلي عن المواقف الحدية تجاه طرفي الجبهة القومية.
* ما السبب في بقاء الخلافات داخل الجبهة القومية بعد المؤتمر الرابع..هل في من يحكم¿ أم له علاقة بخيارات نظام المستقبل¿.
– في رأيي الشخصي بقاء واستمرار الصراع بين ما يسمى يسار الجبهة القومية ويمينها كان يغذيه واقع التطور الخاص باليمن من جهة واختلاف رؤى المركز لحركة القوميين العرب وانتقال الحركة الناصرية بزعامة الزعيم عبد الناصر إلى خيارات وطنية قومية ذات توجهات اشتراكية.
ثم أن تعدد خيارات فكرة بناء دولة المستقبل كانت حاضرة في صراعات مناضلي الجبهة القومية التي كان أعداؤها وخصومها من الداخل والخارج يحاولون الانقضاض على الجميع لكن محاولاتهم بلا استثناء باءت بالفشل أمام يقظة وحذر مناضلي الجبهة القومية مع وجود وبقاء الخلافات في ما بينهم على الأخذ بالأفضل في بناء التجربة الوطنية.