في الذكرى الرابعة للجريمة الإرهابية بحق المصلين في مسجدَي بدر والحشحوش
صمود الشهادة ونذالة العدوان.. تفجير مسجدي بدر والحشحوش نموذجا
الثورة/ حمود الأهنومي
مَرّا يخطران وراءَ أبيهما بشموخٍ طفولي مبدع، لبس ثلاثتهم (طقمًا) موحّدًا، كوتًا أسودَ، وثوبًا بُنيًا، وتظهر أطرافُ السراويل البيضاء تحتَ الأثواب، يتمنطَقون (الجنابي)، يتقدَّمُهما والدُهما الذي تتلمذ على يديَّ قديمًا في هذا المسجد في أواسط التسعينيات.
هذا هو (تقي المطاع) هذه القامة المتضمِّخة بالخلق الكريم والجمال الأخّاذ يمر متقدِّما ولديه هذين محمدًا وعليًا وهما يشقان صفوف المصلين ليذهبا إلى أطراف المسجد، يمضي ثلاثتهم وكأنهم في عرض عسكري لم يتمَّ التحضيرُ له قطعا، لا أدري من أوصاهم بهذا الانتظام في مِشيتهم.
لقد كان ابتعادهم بهذا النحو كافلا لهما السلامة من التفجير الأول.
aأصغر طفليه الجميلين يتذكَّره الحسن ابني بقوة؛ لأنه آخر مرة أبى مصافحتي بعلة صبيانية، أضحكتني وأباه، لم أعد أتذكرها، لكن الحسن يعرفه بهذا الوصف (امْوَلْد الذي ما سلمش عليك).
كان منظر الثلاثة رائقا لولديَّ علي والحسن الجالسين بجانبيَّ خلف أحد الأعمدة التي سترت ظهورنا عن شظايا الانتحاري الخبيث، لقد كان علي والحسن ينظران إليهم بإعجاب ملفِت وهم بتلك الهيئة الجميلة والمِشية الرائعة كما بدا من متابعتهم، كان ذلك بينما كان الشهيد الدكتور والخطيب المحطوري يؤكِّد على تطبيق الحزم وعدم التهاون مع المجرمين، فعرّج على الخيواني، وأثنى على صحفي شجاع كان أول من رفع سقف الصحافة في اليمن، تساءل: هل يجب أن ننتظر القتلة ليقتلونا واحدا واحدا، لم يتركِ النقدَ حتى للمنتمين إلى أنصار الله، لقد طلب منهم بسخريته المعهودة أن يقْصوا أذني الفاسد من أنصار الله، وأن يعلِّقوه في باب اليمن، وعلى صدره (الصرخة).
كان يؤكِّد على دلالة (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) يكرر ذلك، يحاول إسقاطها على قضايا مختلفة، وبينما هو يعود للخطبة الأولى ويعود لتفاعله المعهود منه، ويمِّهد للمصلين بأنه سيُخْبِرُهم بنكتة قال إنه: «يخشى أن تنقض الوضوء»، ما إن أكمل هذه العبارة حتى انتقضت عرى الإنسانية، وتعرى إسلامهم الأمريكي، فتزلزل المسجد بسقوط العشرات هنا حولنا بسرعة خاطفة.
الملفت أن المكان الذي كنت أتعوَّد الجلوسَ فيه أصيب ذلك اليوم جالسوه، ما الذي منعني من الجلوس فيه؟ لا أدري، ربما لأن جواز سفري لم يؤشّر بعدُ للرحلة الكبرى في هذا الكون.
صعق الجميع، رأيت ابنيَّ يلتصقان بالأرض فحذوت حذوهما، لكن الغبار والأتربة والزجاج غمرت رؤوسنا، فقمنا ننفضها.
هُرِع الأطفال الصغار إلى الباب مع بعض المصلين، وهرع ولديَّ خلفهم، كان الطفلان «المطاعيان» يطلبان من والدهما المغادرة كما يبدو، لقد كان بيتهم على مقربة من المسجد وعلى بُعْدِ بضع خطوات منه، لا أدري ما الذي حدث لي حين اتخذت قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم مغادرة الحسن وعلي المسجد، آمرا إياهما بالبقاء في زاوية من زواياه خوفا أن تكون هناك عبوات في الطريق، وحتى أبحث عن عمها الدكتور إبراهيم ورفيقيه الحسين وعبدالصمد، بسرعة خاطفة بعد دقيقة أو دقيقتين انفجر متربص آخر هنا في البوابة، لقد كان ينتظر الخارجين وبالتأكيد كثير منهم من الأطفال وآباؤهم، لقد حصد أَرْوَاحا كثيرة في بوابة المسجد، من دون شك كان كثير منهم بريئا طاهرا، ومع ذلك لم تشفع له براءته ولا طهره في هذه الجريمة النكراء.
في أعقاب الانفجار الثاني أمسكني ابني الحسن، قائلًا: أترى ذينك الولدين، لا أدري أين ذهبا، لقد اختفيا لم أعد أراهما لعلهما بين الشهداء على قارعة الباب، كرر لي: أتتذكر (إمْوَلْد الذي ما سلمش عليك؟) لعله استُشْهِد، كان عقلي تلك الساعة في واقع اللامعقول، لم أستجْمِع الموضوع، وعدْتُ للبحث عن شقيقي وابن أختى ورفيقهما.
ها هي الزجاجات الصغيرة تملأ المسجد نحن ندور بسرعة من هنا إلى هناك، ولا ندري لماذا، في تلك اللحظة ترى هذا الشلو الممزَّع هنا، وتلك اليد هناك، أصادف الأستاذ/ يحيى الجيوري التلميذ الوفي للدكتور يتضمّخ بالدم، ويقطب وجهُه من الألم، ومع ذلك يمشي، لقد ظل قريبا من الدكتور، لكنه لم يُفِدني اليوم، هل نجا الدكتور من الجريمة أم لا؟
وذات الإجابة لقيتها من الأخ عبدالمطلب المحطوري، هو لا يدري أيضا، ولكنني في لحظة أخرى لمحت (محطوريا) آخر من بعيد وهو يجهش بالبكاء، شككت أنه حصل مكروه للدكتور، كان الوقت أقصر وأسرع من التفرغ للسؤال، إنني يجب هنا أن أبحث عن الصِنو ورفيقيه.
التفَتُّ مرة أخرى فلم أعد أرى واحدا من ولديَّ المرعوبين، اللذين يشاهدان هول القيامة، يدور رحاه على الطيبين والأطفال، وجَّهت أحدهما بالمغادرة، وبعد ذلك بقليل أجِد الآخَر وآمرُه بذلك، أشرْتُ لكليهما أن يذهبا من بين باصات الفرزة وأن يأخذا طريقا مغايِرا للشارع العام.
أعود لأتملّى مدى الوحشية المُخْزية وهي تشوي هذه الوجوه والأجسادَ في أطهر بقاعِ الله المساجد، وفي أفضل ساعة في الجمعة، إنه مشهد فيه ربح (الشهداء) وخسارة الأمة التي فقدتهم، أجد الرفيق الثالث عبدالصمد النعمي الذي كان بوجه أبيض، والآن قد تفحّم وجهه، أسأله أين إبراهيم والحسين؟
فأجاب: ربما استشهد إبراهيم، يؤكد أن الحسين هناك لكن إبراهيم لم يره رغم أنهما كانا بجانبه، لقد رآه عند الانفجار وهو يتحرك إلى قفاه، ثم اختفى.
ذهبْتُ أبحث في هذه الوجوه المروِّعة، وفي هذه الأكوام من الأشلاء البشرية الحارقة، وأشم روائح لحوم الأبرياء المصلين تشوى بنار حقد العدوان، فأجد رجلي الحسين ابن أختي مكسورتين وقد رُدَّ أسفلُهما على أعلاهما، وغطت على وجهه البريء جثتان هامدتان، فأستخرجه من بينهما وهو يومض بعينيه فأسأله سؤال الأبله المتحيِّر:
– هل أنت بخير؟! ما الذي أفعله لك؟ آآآآآه يا «بزيي» (ابن أختي) ما الذي تريده؟
كان لا زال ينظر إليَّ بعينيه اللتين كانتا تكتنزان قدرا هائلا من التساؤل البريء والحثيث، فكان يحاصرني بنظرته الهامدة، التي توشِك على الإغماض الأبدي، كأنه كان يسألني:
– هل فعلا هذا حدث يا خالي؟ هل بالفعل أوشكت ساعة الفراق وإلى الأبد؟
كانت عيناه تتحركان بهدوء في بقيةٍ من الابتسامة، غير أن الشظايا كانت قد ملأت جبهته، واتضح لي لاحقا أن عشرات الشظايا قد اخترقت جسده النحيل، وغيّرت كثيرا من ملامح رأسه.
– بني العزيز، ألستَ أنت الذي دخلت قبل قليل يسبِقك خالك وسلمتُما علي بابتسامتين، آه كم أخطأت حين اعتبرت ذلك سلام اللقاء، لكنه اتضح أنه كان سلام الوداع.
– حسين ابني هل ستعود إلى المدرسة لتحقِّق الوعدَ الذي وعدْتَني إياه؟ هل ستحصل على الترتيب الأول في صفك في مدرسة المبدعين (عبدالناصر) كما وعدتني؟ وكأنك الآن تخبرني أنه لا مقام لك هنا، ألسانُ حالِك يقول: أنت يا خالي الذي حشوْتَ أذني: (لنا الصدر دون العالمين أو القبر)، لكن يبدو أنني ذاهب من الصدر إلى القبر.
لا أدري يا خالي إن كنت سأحقق أملك المعقود بالمعرفة والمتزين بالآداب الجميلة.
أخذته ومررت به من تلك البوابة التي ترصّد الإجرام عندها هذه الرقاب التي لم تكن قد «أينعت»، على حد قول ذلك الظلوم في صدر الإسلام والذي كان أرحم من هؤلاء.
في البوابة صحت: يا الله ما هذه الشدة!
لقد كان هنا طفلان يبيعان كتبا وصورا، هذه هي بقية الصور والكتب، متطايرة، وهذه أشلاء كثيرة تتراكم على بعضها، وهناك معاء، وتلك يد، وهناك ما بقي من قذارة المجرم الانتحاري، غير أن الطفل البائع أو أحدهما، وكان يتربَّع على كرسي البيع، لكني وجدته الآن لا يبيع كتبا بل انتهى به الحال أن يبيع من الله، لقد بقي على كرسيه، غير أنه كان للأسف بغير رأس.
كان هناك شكٌّ يراوِدني أن ذينك الطفلين لا زالا حيين؛ لأنني لم أرهما هنا، بين هذا الحصيد من الضحايا، لقد كان ظنا خائبا.
أخرجت الحسين وعبدالصمد إلى البوابة واستوصيت رفيقي (الكبسي) بإسعافهما مع أول سيارة، لا زال هناك أمل يراودني أن أجد أخي إبراهيم، سأعود مرة أخرى لأبحث عنه، لكنني ما إن وصلت حتى طلب مني أحد الناجين من هذا المكان المُمِيت أن أربط رجله المكسرة، كان يبدو سليما ويحرِّك رأسَه بشكلٍ طبيعي، ولكنه رضي أن يبقى بين هذه الجثث الكثيرة لأن أكسار رجله أقعدته، فسألتُه بم أربطك؟ أجاب بصمادتك، ابتسمتُ ولات حين بسمة، لرجل مصابٍ هادئٍ يتذكَّر هذا، وأنا المعافى قد نسيتُ، ربطته تحت صيحات ألمه.
طلبت ممن كان هناك أن يذهب للنعش لنحمله عليه، وطفقت أنا أبحث عن أحبِّ إخوتي إلى قلبي إبراهيم، أين أنت يا أبراهيم؟ أين أنت أيها المتفوق في دراساتك دائما منذ صغرك؟ أين أنت يا من كنت أردد أن الله ما خلق إبراهيم إلا للعلم؟ أين أنت يا مَنْ كنتَ تنجح في كُلّ تحديات العلم؟
تبحث وتدور، فيأتي هاجس ليقول لك: ليس هناك مجال للبحث، وأجساد الضحايا تملأ المسجد، يجب أن تتحرَّك لتُخْرِج الأول فالأول، لم أجد إبراهيم، راودني شك جميل وحالم في غير محله، قلت: إنه طبيب، لعله تحرك ليُسْعِفَ نفسه بعد الحادث مباشرة، هكذا سيفعل الأطباء بأنفسهم، سيتذكرون هذا الأمر، إنه إذا بخير، وقد نجا من هذه المحرقة، ما أجملَ أن تحاول انتزاع الآمال الساذِجة من وسط هذا الإجرام اللامعقول واللامتخيل في أطهر الأمكنة المساجد.
أوووووووووه حسين ولدك هناك عند الباب حيث تركتَه لم لا تذهب لإسعافه؟ هكذا تتزاحم الأفكار الكثيرة في الأوقات الحرجة، وتتقافز التأنيبات الآنية والسريعة، وهكذا تتناقض بسرعة الضوء الأولويات لديك، بأيها تبدأ وبأيها تنتهي، هُرِعْتُ بسرعة، بين كسر الزجاج الصغيرة، وعلى صفحات الدماء المراقة، إلى تلك البوابة، غير أنني لم أجد لا حسينا ولا عبدالصمد، ومن قبل ذلك لم أر إبراهيم.
كان هؤلاء الشبان يتحرَّكون بسرعة، لإخراج الجثث إلى المشافي، بيدي تلفونان كنت أريد الاتصال بصديق أو قريب أطلب منه التحرك بسرعة للبحث في المشفى عن إبراهيم والحسين وعبدالصمد، لكنني بسرعة أنسى، يتحرك هنا مشهد يخرجك عن السياق، أحاول أن أمضي إلى البيت ولكن المتحلقين هنا يرشدهم منظر الدماء التي على ثوبي وكوتي بأنني جئت من معمعة دم، يتكاثرون علي للسؤال، فأضجر أن أجيب على كلِّ أحد، إن الوقتَ يداهمني، ولا يسمح بالتفصيل لكل هذا التساؤلات المُحِقة والتي تريد التعرُّف على ما حصل بشكل أكثر، أزمعت العودة إلى المسجد حتى أجد سيارة أجرة أركب فيها.
تلفوناي (يمن موبايل وإم تي إن) تتزاحم على شاشتيهما الاتصالات من الأقارب، والأصدقاء، لم أشأ أن أرد على أحد في تلك اللحظة، ولا يمكنني ذلك، غير أنني وأنا أدور في ردهات المسجد الكبير، بين تلك الأشلاء كنت قد سمعت انفجارا ضخما، وبسرعة البرق ذهب ذهني إلى أن هذا النموذج المتسخ والقذر قد تكرر في مساجد مختلفة، واستقر رأيي أن المساجد المزدحمة بالمصلين هي الهدف، ومنها الحشحوش،..
يا الله كم إذاً من الأصدقاء والناس الأبرياء قد ذهبوا أدراج هذا العدوان على بيوت الله؟!
أخيرًا علمت أن الحسين في مشفى الثورة شهيدًا، وأن إبراهيم في الشرطة القديم أيضا شهيد، يا الله خُذْ ودائعك التي يريد المستودِع استبقاءَها لديه، أنت صاحب الحق، وأنت الكريم الذي يكرم مخلوقاته.
هأنذا وقد بدأت أكتُبُ هذه التراجيديا المأساوية، يعلنون أن شيخنا العالم المحقق والخطيب المفوَّه الدكتور المحطوري صار عميدًا لشهداء المنبر، بعد عمر جيد في مقارعة هذه الاشكال الغريبة التي كانت نهايته على يديها، وهل كانت هناك نهاية أروع من هذه القصة المروِّعة والرائعة التي اختتمتها يا شيخَنا المفدى، وهل يليق برجل مثلك علمًا وعملًا وتحقيقًا وشجاعةً إلا أن يكون شهيدًا سعيدا.
يااااااااه يا للهول، لقد عرفت أن عشرات الشهداء قضوا في هذه الجمعة الدامية في المسجدين، هناك أحباء ومعروفون كثيرون من ضمنهم، لكن هل تتذكرون ذينك الطفلين اللذين توقعهما (الحسن) ضمن الشهداء، نعم هذه صفحة في الفيسبوك تخبِرُني بنهاية مأساوية لهما، لقد ركضا من الانفجار الأول، ليقعا في آخر مثله، وصدق عليهما قول من قال: (ومن لم يَمُتْ بالجبس الأول مات بالثاني).
عدت إلى البيت لأرد على عشرات الاتصالات وكان على أثيرِ كلٍّ منها يأتي خبر شهيد، مشفوعًا بعبارات الحمدلله، وعظيم الصبر، أتذكر أنه بينما كنت في مشفى الثورة أبحث عن المصابين سألني مراسل المسيرة، فقلت كلمة لم أنسها: إن هذه جريمة كبيرة وحقيرة وعدوان سافل لكنها بالتأكيد لن تستطيع إيقاف حياتنا، والحياة بنهرها العابر والمتموج بالآمال وبيقين العدل الإلهي هي أقوى من كُلّ هذه التعنترات القبيحة.