> مؤتمر الجدران المتساقطة للعلوم في برلين
برلين/ عمر الحياني
قبل لحظات من افتتاح مؤتمر الجدران المتساقطة بالعاصمة الألمانية خلال نوفمبر
2018 م، كانت أجواء برلين الباردة هي المهيمن على مزاج المدينة التي تحتضن المؤتمر ومهرجان العلوم سنوياً، غير أن بهاء الاستقبال وتنوع الحضور العلمي بددا البرودة المعتادة، ليفتحا الأعين، على برلين، التي انقسمت خلال الحرب العالمية إلى شرقية وغربية، ثم ما لبثت الماكنة الألمانية بأن تعيد هندستها بخطوات متسارعة منذ عقود، صوب المستقبل من نافذة العلوم والاقتصاد والصناعة، هذه المرة.
يمثل المؤتمر، جانباً هندسياً آخر، إذ يعكس تحول ذكرى الجدران المتساقطة في وسط برلين نافذة إلى العلوم، وهي الذكرى التي تمثل منذ توحيد المانيا مناسبةً للاستشراف نحو المستقبل بالعلم، حيث كان لسقوط الجدران معنى آخر في عقول العلماء ومحاولة لكسر الجمود والأفكار العلمية والوصول إلى فهم أعمق وبشكل عالمي للمشاكل العلمية.
إنها إذن الجدران المتساقطة، والتي أثارت انتباهي لوقت طويل، وارتباطها بالعلوم بعد
20 عاما من سقوط جدران برلين، ليصبح حدثا عالميا منذ عام 2009 م، يجتمع فيه العلماء والباحثون الشباب في المجال العلمي من جميع أنحاء العالم، في ظاهرة علمية فريدة من نوعها.
The) ويعد مؤتمر الجدران المتساقطة تجمعاً سنوياً وعالميا (Falling Walls
للأفكار المستقبلية، تنظمه مؤسسة الجدران
Falling Walls Foundation) المتساقطة ) كل عام في التاسع من نوفمبر – الذكرى
السنوية لسقوط جدار برلين – ويُدعى خلاله 20 من كبار العلماء في العالم إلى برلين لتقديم أبحاثهم المتقدمة وبمشاركة 80 دولة بشبابها وباحثيها، وذلك بهدف معالجة سؤالين: ما هي الجدران العلمية التالية التي ستسقط؟ وكيف؟.
هدم الجدران نحو المستقبل بالعلم
كان للمعاناة الالمانية من الجدران التي فصلت المانيا إلى دولتين قصص وذكريات أليمة، حولت الجدران وسقوطها إلى فلسفة علمية نحو المستقبل، عبر ثورة علمية يتبناها العلماء لإسقاط الحواجز العلمية،
والانتقال إلى التعاون العلمي العالمي بين جميع الباحثين والعلماء والمراكز العلمية.
وكرمز لسقوط الجدران وإعادة توحيد المانيا، تنبع فلسفة المؤتمر على تبني إسقاط الحواجز التي تنشأ بين العلماء والمراكز العلمية في دول العالم المختلفة باعتبار العلم حقا بشريا للجميع.
يقول رئيس مجلس إدارة مؤسسة
الجدران المتساقطة البروفيسور يورغن ملينيك في تصريحات صحفية إنه ” يجب على العلماء التدخل بشكل أكبر”، وإن هناك حاجة “إلى تماسك وتضامن أوروبي، نحتاج معها إلى تعاون علمي أفضل وإلا فإننا لن نكون قادرين على مجاراة الولايات المتحدة والصين” ومع ذلك “حتى هذه البلدان الكبيرة ليست قادرة على مواجهة الموضوعات والتحديات العلمية المستقبلية منفردة”.
ويواصل: إن “من الضروري والمهم أن نجمع القوى معا في شتى أنحاء العالم، وأن نضع المصالح الجزئية والخاصة جانبا. وهنا يمكن للجدران المتساقطة أن يلعب دوراً مهماً مع علماء من شتى أنحاء العالم يستعرضون أمام الجميع القيمة الاجتماعية لأعمالهم”.
أفكار الشباب العلمية أولاً
كانت قاعات مؤتمر الجدران المتساقطة في برلين تكتظ بالمشاركين من الباحثين من مختلف البلدان، إذ شارك 100 متسابق من 60 دولة، هم حصيلة الباحثين الذين تم اختيارهم من خلال المسابقات المحلية التي جرت على مدى شهور، بين أكثر من 3000 متسابق على مستوى العالم.
حصل كل مشارك على ثلاث دقائق فقط لعرض فكرته على لجنة المتسابقين والحضور، وخلالها قدم المتسابقون ابتكاراتهم وحلولهم من الذكاء الاصطناعي، إلى أدوية شجرة البن، إلى نماذج تحاكي الجسم البشري وتساعد الجراحين وطلاب كلية الطب في التعليم وتنفيذ العمليات بشكل علمي ودقيق.
وخلال العرض العلمي، كان الوقت يمر
سريعاً، مع تتالي عرض الأفكار، قبل أن يختتم العرض بإعلان المشاريع الابتكارية الفائزة، حيث حصل الطبيب المصري أحمد غازي الأستاذ بجامعة روشستر الأمريكية على المركز الأول، بابتكاره نموذجاً طبياً يحاكي أعضاء الجسم البشري في محاولة لمساعدة الجراحين عبر محاكاة العمليات قبل تنفيذها مما يساعدهم على تنفيذ العمليات الدقيقة بشكل عملي ودقيق، بالإضافة إلى أنها نموذج مثالي لجسم الإنسان يستفيد منها طلاب كليات الطب في تطبيقاتهم التدريبية. عبقرية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي خلال المؤتمر العلمي في برلين، كان الذكاء الاصطناعي بوصفه التطور الذي يمثل أكثر من مجرد ثورة صناعية ويتجاوز البشرية وحتى البيولوجيا، حاضرا بقوة في المؤتمر، سواء بالأفكار المستقبلية التي تتحدث عن التطورات الهائلة لعصر الذكاء الاصطناعي مع اختراقه عالم اليوم بسرعة هائلة، أو بالابتكارات التي تم استعراضها خلال المهرجان، ويقول البروفيسور يورغن ملينيك إن المؤتمر خصص العديد من المحاضرات والحوارات لمسألة الذكاء الصناعي تحت العنوان العام “عبقرية الإنسان في عصر الذكاء الصناعي”.
وضمن البرنامج الرئيسي للجدران المتساقطة كان من بين المتحدثين حامل جائزة لايبنيتس بيرنهارد شولكوبف الذي تحدث حول مسألة الذكاء الصناعي، كما تناول المؤتمر حزمة عريضة من الموضوعات، شملت العلوم الطبيعية، مرورا بالاستدامة في الصناعة، وصولا إلى التساؤل حول مستقبل الديمقراطية والعلوم ودورهما في التطور العلمي والتنمية المستدامة”، يضيف ملينيك.
المغناطيس أفكار جديدة لعصر جديد ليس الكون وحده هو من يشغل بال العلماء، بل وكل جزيئاته المتناثرة على مليارات السنيين الضوئية والتي تقف أمامهم في محاولة لفهم داخلها وما وراءها وكل المحيط المؤثر وغير المؤثر بها، إنها حركة العقول التي لا تتوقف عن السؤال
والتفكير والفحص في محاولة لفهم ديناميكية المادة وقوانينها وتطويعها لخدمة الإنسان الباحث عن المستقبل داخل هذا الكون الغامض والمليء بالألغاز.
وبحثا عن الأفكار الجديدة لعصر جديد يبحث أستاذ نظرية المواد في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ نيكولا سيلايدن في علم المواد محاولا الغوص في أعماقها المواد يستكشف أسرارها لمستقبل أكثر ذكاء وأناقة.
يقول سيلايدن خلال مشاركته في مؤتمر الجدران “نحن في عصر السيليكون اليوم، تشكل ترانزستورات السليكون جوهر جزء كبير من الإلكترونيات الدقيقة التي تمكن أسلوب حياتنا الحديثة”.
ويشير إلى أنه وعلى مدى العقود القليلة
الماضية” قمنا بتحسين خصائص أجهزة السليكون إلى حد مذهل، مما مكن من تحويل أجهزة الكمبيوتر المكتبية القديمة القوية إلى هواتف ذكية أنيقة مع التسليم بالزيادة الهائلة في القدرة وما يقابل ذلك من تناقص في الحجم والتكلفة استولت عليها قانون مور”.
ومع ذلك، يواصل سيلايدن: إن هذه الثورة السليكونية” ستضطر قريباً إلى وضع حدٍ لها، حيث نبدأ في الدخول إلى حدود مادية أساسية يحددها حجم الذرات الفردية التي تشكل المادة السليكونية، وهذا يعني أن المسيرة المطلقة نحو منتجات أسرع وأصغر وأخف وزنا مع المزيد والمزيد من الوظائف لا يمكن أن تستمر في إطار عملنا الحالي”.
يطرح في السياق التساؤل، ماذا عن الجدران التي نحتاج إلى تفكيكها حتى نتمكن من دخول “عصر متعدد الجسيمات” الجديد؟ إذ “نحتاج إلى تطوير مواد جديدة تبقى فيها ثنائيات القطب المغناطيسية والكهربائية ثابتة عند درجة حرارة الغرفة، حتى عندما نضعها في أحجام صغيرة جداً، بالإضافة إلى حاجتنا لفهم عملية إعادة توجيه ثنائيات القطب بشكل جيد بما فيه الكفاية للقيام بذلك مع حقول كهربائية صغيرة جدا”. فضلاً عن الحاجة التأكد من أن المواد الجديدة لدينا وفيرة على الأرض، حميدة بيئيا، ورخيصة وسهلة عمليا وفي المقابل “تزودنا مراكزنا المتعددة الوظائف بملعب لاستكشاف مجموعة من الأسئلة العلمية الأساسية المثيرة، وربما، ربما، الأمر الذي يمهد الطريق لعصر المواد التالي”، يقول سيلايدن.
مشاركة فاعلة للفرق العربية في المهرجان لم يكن المطبخ المصري الحاضر الوحيد في غداء اليوم الثاني لفعاليات المؤتمر، فهناك حضر المطبخ الياباني، والصيني، والالماني، في تنوع مدهش يحاكي الجدران المتساقطة والتي نادى العلماء الحاضرون بضرورة هدمها بحثا عن تفاعل عالمي للعلم والثقافة بدون حواجز مفتعلة.
ومثل هذا التنوع حافزا لبعض الدول
العربية للمشاركة الفاعلة في المهرجان العلمي المرافق للمؤتمر والحاضن للأفكار والابتكارات العلمية للباحثين والشباب العربي، حيث شارك شباب وباحثون من الإمارات وسلطنة عمان والسودان ومصر بأفكار ملهمة وابتكارات علمية نالت الاستحسان وفاز البعض منها بالجوائز.
تقول الباحثة والمشاركة العربية في المؤتمر من مصر الدكتورة ليلي عادل زيكو في تصريح خاص إن “مشاركتها تأتي بهدف استعراض جهودها البحثية في مجال بحوث علاجات السرطان بفكرة علاج الخلايا السرطانية بخلايا مستخلصة من الأعشاب البحرية”.
تعمل الباحثة المصرية زيكو بالتعاون مع فريق عمل من الجامعة الأمريكية على استنباط مستخلصات لها تأثير مضاد للبكتيريا من الحمض النووي لبكتيريا أخرى نادرة تعيش في أعماق البحر الأحمر، وتقول إن تم إجراء الأبحاث على نحو عشرة ألف عينة في المعمل وكانت التجارب مبشرة حيث قضت بعض الأنواع من المستخلصات على الخلايا السرطانية، وترى أن البحث العلمي يحتاج إلى تمويل كبير وهو ما نعمل على إيجاده في الفترة القادمة كي نمضي قدما في أبحاثنا العلمية.
من جهة أخرى يقول الطبيب المصري
أحمد غازي الأستاذ بجامعة روشستر الأمريكية والفائز بالمركز الأول بابتكار أسلوب يساعد الجراحين على تنفيذ العمليات الدقيقة بشكل عملي على نموذج مصنع لجسم المريض ، إن ابتكاره العلمي الفائز بالجائزة الأولى في المؤتمر يعمل على حل مشكلة تصادف جراحي الكلى وجراحي بعض الأعضاء في جسم الإنسان على تنفيذ العمليات الجراحية الدقيقة على نماذج المحاكاة لأعضاء الإنسان قبل إجراء العلمية مما يساعدهم على إنجاح العملية بشكل دقيق وعلمي.
ويواصل غازي “إن نماذج محاكاة
أعضاء جسم الإنسان مصنوعة من مادة الهيدروجيل (وهو خليط كيميائى للبوليمار يحتفظ بالماء وأكثر نعومة من السليكون) وستعمل على مساعدة طلاب كليات العلوم الصحية على التدرب على نماذج اقرب شبها بأعضاء الإنسان”.
الرحلة الطويلة لحضور المؤتمر
غادرت اليمن في الأول من سبتمبر 2018 م، في رحلة طويلة متعبة ومرهقة امتدت من صنعاء إلى عدن ومنها إلى الخرطوم لحضور منتدى هايدمبورج الخاص بعلماء الحاسوب والرياضيات إلا أن فترة انتظاري للحصول على الفيزا لم توفق، حيث انتهى المؤتمر في 29 سبتمبر من العام نفسه، ولم تصدر الفيزا بعد، ولحسن الحظ؛ كان هناك مفاجأة أخرى بوصول دعوة من مؤتمر الجدران المتساقطة للحضور بمنحة من وزارة الخارجية الألمانية مع عشرة زملاء من عدة دول.
قدمت الدعوة إلى السفارة الألمانية وكان
انتظاري لمدة نصف شهر إلى حين إصدار الفيزا واستلامي لها فقررت المكوث في الخرطوم حتى موعد المؤتمر مغادرا إلى برلين، بعد شهرين ونصف فترة انتظاري للحصول على الفيزا التي كنت احصل عليها في صنعاء خلال أسبوع، غير أن الحرب التي عصفت باليمن منذ سنوات، خلقت عزلة لليمنيين ووضعت مزيداً من التعقيدات في طريق حياتهم.
* صحفي يمني متخصص في الشؤون العلمية.