شذرات من تضحيات الأمهات
سعاد الشامي
كل يومٍ وقبل أن تصحو الشمس باسطةً كفيَّها مرسلةً بنانها لتفك أزرار الليل ،وتخلع عن جسد الكون عباءة الظلمة.
هناك على سجادة الصلاة أمٌ تبسط كفيَّها إلى السماء ولسانها يلهج بالدعاء ،ومشاعرها تبكي حيث الآه ولكن دون صدى..لفراق فلذة كبدها ..
… ابنها الغائب عنها والحاضر في روحها وصدرها بقوة القضية التي تؤمن بها ويدافع عنها.
وما إن تتوهج الشمس متوجة هام السماء ؛حتى يسري شعاع الشوق بدفء عاطفة الأمومة مشعلاً حرارة الحنين في أوردة قلبها، مهرولاً بها نحو بابٍ ألِفَ طقوس حنانها، وطرقات يدها الرؤوفة كخفقان قلبها ،وطَرِبَ زماناً بنبرات صوتها المفعمة بالمحبة المنادية بُني ..صغيري .. ولدي منتظرةً صوتَ الحياة العائد إليها بإجابةٍ ثلثيها تثاؤب .. ولكنها هذه المرة تستسلم ؛ليأسها من سماعه .. فتحطم جدار الصمت ،وتزيح جمود الباب مندفعةً إلى مهد الحنين … لتسارع إلى فتح الدولاب وإحتضان ذلك الثوب الذي تفوح منه رائحة ابنها عساه يسوق شوقها المبلل بشذاه إلى مرساة الأمان وكأنها تقول له: كن لي ثوب يوسف وكف عن قلبي حراب الغياب !
تروض مشاعرها الفطرية لِتمتطيها وتشدُّ رحالها إلى ذلك السرير المهجور؛ تتحسس فيه بقايا دفء ابنها الغائب ..تبحثُ عن طيف ابنها في كل شبرٍ من بيتها وقلبُها يحتضر أمام وحشة غيابه ولا يوجد قانون في الكون بإمكانه أن يحلَّ ويفسر مشاعر الأم المفتقدة لابنها … تبكي بحرقة الأمومة المعهودة … ثم ما تلبث أن تستجمع قواها وهي تستذكر قول الله تعالى:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.} (النساء-74). تهدأُ قليلا فيزورها سنا آية أخرى : { انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.} (التوبة-41). فتنزح روحها إلى ضفاف الطمأنينة فيمر ببالها طيف آية ثالثة :- { إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (التوبة’39) . فتستقر في بساتين اليقين ويذهب خوفها على حياة ابنها الفانية برعبها من مصيره لو ظل عندها في الحياة الدنيا .. فيهون في عينها غيابه ويستمرأ قلبها ابتعاده …
فهل تعتقدون بأن عاطفتنا أصابها إعياء شديد فشاخت وترهل فيها الاحساس ؟؟
لا…… والذي حقن عروق الأمهات بإبرة الحنان وغرزها بوريد العاطفة؛ فإن مشاعرنا أرتقت وزاد طهرها وبلغت ذروة الإيثار وأصبحت بمستوى أن تضحي لتعم الجميع .
هل تعتقدون بأننا لانخاف عليهم؟ لا يشغل بالنا حالهم؟ جاعوا ؟عطشوا ؟ناموا ؟أصابهم برد أو مرض ؟ أصيبوا ؟جرحوا ؟ إستشهدوا !!! آه ولكننا عندما نتذكر أن كل ذلك في سبيل الله ونتذكر أن الشهداء أصبحوا أحياء عند ربهم …نصبر ونحتسب وننتظر بشرى الصابرين على أمل أن يكون لنا معهم في جنة الخلد موعدا.
هل تعتقدون أننا لا نبكِ من فرط الحنين إليهم؟؟!!!
نبكي ولكننا نحبس دمعة الحنين عندما نسمع صرخات أم أخرى تبكي إبنها المدفون تحت الركام .. وعندما نسمع صرخات الإستنقاذ والإستنصار لأخرى تبكي شرفها المهدور وعرضها المستباح..