الخرطوم/وكالات
يبدو أن تغيير النظام السياسي في السودان أصبح حتمياً نتيجة فشله في القيام بوظائفه الأساسية تجاه الشعب السوداني من ناحية، واستمرار الاحتجاجات ضده على مدى أكثر من أسبوع على رقعة واسعة من التراب الوطني لدولة السودان، من ناحية أخرى، غير أن حجم هذا التغيير، أو درجة جذريته مازال غير واضح حتى اللحظة، نظراً لتشابك عوامل كثيرة معظمها داخلي، وإن كان للعوامل الإقليمية والدولية مساحة مؤثرة نظراً لما يمكن أن تحدثه حالة فراغ السلطة في السودان من انعكاسات على الأمن الإقليمي والدولي، وربما يكون من المهم في البداية رصد حالة الاحتجاجات وأسبابها، ثم تحولاتها، قبل أن ننتقل إلى حدود التغيير المحتملة.
اندلعت الاحتجاجات ضد النظام السوداني من مدينة عطبرة شمال شرق السودان لأسباب مباشرة مرتبطة بندرة كل من الخبز والوقود، ونقص السيولة النقدية في البنوك حتى أنه لم يعد للناس القدرة على الحصول على مدخراتهم، وقد زادت متوالية الاحتجاجات لتطول مدن الغضارف ومدني والربك وبوتسودان ثم الخرطوم على مدى الأيام الماضية.
ويمكن القول إن هذه الاحتجاجات هي احتجاجات شعبية بامتياز، التحقت بها بعد ذلك الأحزاب السياسية، واتحاد المهنيين، وبدأت بطابع اقتصادي- اجتماعي، لكنها سرعان ما بلورت مطالب سياسية تنادي بتغيير النظام السياسي، خصوصاً في ضوء مسؤوليته المباشرة عن تردي الأحوال المعيشية، وتطلّع الرئيس عمر البشير إلى الترشح لفترة رئاسية جديدة قد تكون مفتوحة في انتخابات 2020م، ودعم الحركة الإسلامية لهذا التوجّه، وهو ما أكدته في مؤتمرها التاسع الأخير، والذي أعلنت فيه دعمها لترشح البشير لفترة جديدة، وذلك رغم أنه قد قارب على تسجيل 30 عاماً من حكم السودان، وهو ما دفع المتظاهرين إلى حرق مقار حزب المؤتمر الوطني الحاكم في كل المدن التي اندلعت فيها الاحتجاجات، بجانب الاستيلاء على محتويات ديوان الزكاة من سلع ومواد تموينية وتوزيعها، ولتأكيد التحاقهما بالاحتجاجات، أصدر الحزبان الاتحادي والأمة بيانات لدعم هذه الاحتجاجات، وقادها في يومها السادس اتحاد المهنيين السودانيين الذي تبنّى تقديم مذكرة لرئاسة الجمهورية تضمّنت بنداً وحيداً هو مطالبة الرئيس عمر البشير التنحي عن الحكم، وفي هذا السياق، عمم الاتحاد مذكرته هذه على ممثلي الاتحاد الأوروبي وسفارات الكثير من العواصم الدولية، التي اندلعت فيها أيضاً مظاهرات للجاليات السودانية أمام السفارات السودانية لتأييد مطلب تنحي الرئيس البشير.
وعلى الرغم من تعطيل الحكومة للدراسة بكل مستوياتها في كل من الخرطوم وولاية سنار، إلا أن الاحتجاجات حافظت على استمراريتها واتساعها الكمّي والجغرافي، وقد تسببت هذه الاحتجاجات في ارتباك الموقف الرئاسي والحكومي منها، فبينما اتهم رئيس المخابرات صلاح جوش المحتجين أنهم أداة في يد المخابرات الإسرائيلية، أو خلايا دارفورية منتمية للمعارض عبدالواحد نور، فإن الرئيس البشير حاول -عشية تقديم مذكرة التنحي إلى القصر الجمهوري- احتواء المتظاهرين من خلال الاعتراف بمشروعية حركة المواطنين وواعداً بإصلاحات جذرية ومشروعات تنموية، لكنه سرعان ما انقلب على موقفه هذا ليتهم المعارضين من ولاية الجزيرة أنهم “خونة” و”عملاء”، تحرّكهم أياد أجنبية، نظراً لما وصفه بموقفه “المبدئي”، ومحاصرة الغرب للسودان! وقد ارتبط الموقف التصعيدي من جانب الرئيس البشير بقدرة الأمن على عدم السماح للمتظاهرين بالوصول للقصر الجمهوري وتقديره أن الأدوات الأمنية في القمع مازالت ناجعة.
أما على مستوى الأجهزة الأمنية، فنلاحظ أيضاً وجود درجة من التفاوت والارتباك، حيث برزت في عطبرة خلال الأيام الأولى انحيازات قادة بالجيش للاحتجاجات ما عزّز من المخاوف حول إمكانية حدوث انقلاب عسكري تقوده عناصر محسوبة على الجبهة القومية الإسلامية، بهدف احتواء الاحتجاجات الجماهيرية، وإجراء تغيير شكلي للنظام باقتلاع رأسه فقط، وهو ما يتيح الحفاظ على مصالح النخب القائمة، وقد تزامن مع ذلك نفي محمد حمدان دقلو حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، القيام بأي دور في قمع المحتجين، لكن سرعان ما أصدر الجيش القومي بياناً قبل يوم من مظاهرة القصر أكد فيه التفافه حول قيادته، والتلاحم بين كل الأجهزة الأمنية بالدولة: الجيش والشرطة وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن الداخلي، غير أن حميدتي عاد مرة أخرى ليعلن انشقاقه عن هذه الحالة، بل انتقاده الأوضاع القائمة، مؤكداً مرة أخرى عدم ضلوع قواته في قمع أي احتجاجات للسودانيين، مع إضفاء طابع من الشرعية على هذه الاحتجاجات، والمطالبة بضرورة تحسين حياة السودانيين.
لا يبدو الانفجار الشعبي الذي جرى مؤخراً مفاجئاً للمراقبين للشأن السوداني، ذلك أن عمر الاحتقانات السياسية في السودان كبير، كما أن عدم الاستقرار الأمني في كل من دارفور وجنوب كردفان له أثره السلبي على حالة استقرار الدولة، أضف إلى ذلك أن السلطة المطلقة التي مارسها الرئيس البشير خلال الفترة الماضية باتت موضع قلق دولي، وقد تعددت المبادرات الإقليمية لعلاج هذه الاحتقانات، سواء على المستوى الإفريقي فيما عُرف بمبادرة الرئيس الجنوب إفريقي إمبيكي، أو المبادرات الخليجية منذ انتخابات 2015م، والتي قامت على توفير خروج آمن للبشير مقابل تأمينه من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، غير أن هذه المبادرات لم تنجح في معالجة أزمة النظام السوداني، فقد فشلت مبادرة أمبيكي قبل أسبوع واحد من اندلاع التظاهرات بسبب المنافسات بين قوى “نداء السودان” (وهو تحالف معارض)، كذلك فشلت المبادرة الخليجية في تحقيق هدفها بسبب عدم قدرة الأطراف على الوصول إلى توافق مع البشير.
ويزيد من تعقّد الوضع الأمني في السودان العلاقة القوية التي تربط النظام بتنظيمات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، ووجود خلايا نائمة لتنظيمي داعش والقاعدة وحزب التحرير الإسلامي، ناهيك عن تغول السلفية على مظاهر الحياة اليومية في السودان، والتي يتحول بعضها إلى نمط السلفية الجهادية خصوصاً في مناطق شرق ووسط إفريقيا.
في هذا السياق، لا يبدو أن الموقف الدولي والإقليمي سوف يسمح هذه المرة بتوسّع النظام في استخدام العنف ضد الشعب السوداني، لعدة أسباب، منها أن الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية السودانية تبدو مستمرة، وبلورت قيادات محددة، تمثّلت حتى الآن في اتحاد المهنيين، فضلاً عن اتساعها الجغرافي، وتحت مظلّة هذه الحالة الشاملة من الاحتجاجات برزت تسريبات – غير مؤكدة – في الشارع السياسي حول انخراط عناصر من جهاز الأمن الشعبي (جهاز سري) في تصفية المحتجين العزّل بالذخيرة الحية، وربما هذا ما يفسر سقوط ضحايا تقدرهم منظمة العفو الدولية بـ?? قتيلاً حتى (25 ديسمبر) من العام المنصرم، ولا تعترف الحكومة السودانية بهذا العدد، وإن كانت تعترف بوقوع ثمانية قتلى فقط، التحوّل إلى التصفية الجسدية للمدنيين يعني إمكانية انفتاح السودان على نزاع أهلي مسلّح، خاصة في ظل انتشار السلاح داخل المجتمع السوداني بسبب انتشار الصراعات من جهة، ووجود اتجاهات من النخب السودانية الحاكمة والمتنفّذة قد تستند إلى السلاح لحماية نفسها وممتلكاتها من غضب الشعب السوداني.