أ/ أحمد عبدالله الكحلاني
الدعاء مخ العبادة كما ورد في الحديث النبوي الشريف، وهو الوسيلة إلى رضوان الله ، وبه ينال الإنسان شرف الاتصال بالله سبحانه؛ ولأهميته في حياة الإنسان الروحية والدينية أمر الله عباده بالتوجه بالدعاء إليه فقال جل من قائل:﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين﴾[غافر:60] فأنت أخي القارئ ترى في هذه الآية أن الله سبحانه قد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، وسمى الدعاء عبادة، وسمى تركه استكبارا، لأنه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين ﴾ وتوعد على ترك الدعاء دخول جهنم داخرين، وما دام القرآن قد سمى الدعاء عبادة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ قد سماه مخ العبادة فمعنى ذلك أنه لا تتصور عبادة من دون دعاء لأن الدعاء يمثل جوهر وحقيقة العبادة، ولأن العبادة هي غاية الخضوع والتذلل والإقبال على الرب الرحيم وهذه المعاني تتجلى في أعظم مناظرها وأبهى صورها في حقيقة الدعاء لاسيما والدعاء يظهر الإنسان في صورته الحقيقية وحالته الواقعية وهي الافتقار إلى الله في كل شأن والاحتياج إليه في كل أمر، وعندما يقف المرء بين يدي خالقه ورازقه ومدبر كل أموره يطلب من مولاه حاجته ويسأله سد خلته، ويمنحه من عظيم فضله، وجزيل بره، تتجلى حقيقة عبوديته، وتتطهر بواطن سريرته، فبقدر إحساس المرء بحاجته إلى الله بقدر ما يكثر من الدعاء، والعكس بالعكس فالإنسان يطغى ويستكبر بقدر استغناءه عن الله قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾[العلق:7، 8] .
والإنسان من خلال الدعاء يعمق معاني الإيمان في قلبه، ويغرسها في عقله، حتى تصبح مع المداومة معاني راسخة في وجدانه ثابتةً في صدره، وحين يتأمل المتأمل في قول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون﴾[البقرة:186] يلمس في ثناياها روعة البيان ورحمة الديان، ويدرك منها غفلة هذا الإنسان عن دعاء ربه عزوجل، ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي﴾ إيحاء بالقرب، وإشعار بالسبب، فلأنهم عبادٌ لي فسوف يحتاجون وسوف يسألون، فأخبرهم يا محمد أني قريب منهم أدبر شؤونهم وأحوالهم، وأعلم خفيات سرائرهم وما يصلح دينهم ودنياهم، فمتى شاءوا توجهوا إليّ بالدعاء ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أي إذا تحقق منه التوجه إليّ بالطلب، فإذا تحقق من العبد الدعاء تحققت الإجابة قطعاً، وعدٌ إلهيٌ لا يتغير ولا يتبدل على مرور الأعوام والأزمان، يدرك حقيقته المؤمنون، ويعرف أسراره الموقنون.
وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يوجد هذه الدنيا على أسباب وقوانين ثابتة، وجعل الدعاء ملجأً لمن استنفد الأسباب وتغلقت عليه الأبواب، فالدعاء بحد ذاته سبب، والله سبحانه هو مسبب الأسباب من دون سبب، ولهذا قال المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «الدعاء سلاح المؤمن» فعندما يقوم الإنسان بواجباته ويتسبب في هذه الحياة بأسبابها الطبيعية، ويستفرغ وسعه وجهده عند ذلك يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، ويلجأ إلى سلاحه النافذ الذي لا يخيب من اتخذه سلاحا، ولا يندم من سلكه طريقاً؛ لأنه يعتصم بمن بيده ملكوت كل شيءٍ، ولنا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أسوة حسنة، فعندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله كانوا قوم سوءٍ أغرو به سفهاءهم وصبيانهم ومجانينهم حتى أدموا قدمه الشريف، فالتجأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ إلى حائطٍ وتوجه إلى ربه قائلاً: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، ولكن عافيتَك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلَّ عليَّ سخطك، ولا حول ولا وقوة إلا بك» فهذا الدعاء كان سلاحاً فعالاً، فقد نزل جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال قائلاً: «يا محمد السلام يقرئك السلام ويقول لك: ما اهتز عرش الرحمن لدعاءٍ كدعائك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».
وفي موقف آخر يبين لنا رسول الله الثقافة الصحيحة في الدعاء في إحدى غزواته عندما استكمل عدته واستنفذ قوته فقال: «اللهم إنه لم يبق إلى نصرك» لأنه ومن معه قد قاموا بدورهم وبذلوا وسعهم، عند ذلك توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى أن يمدهم بنصره.
ومثل ذلك فعل المؤمنون في قصة طالوت عندما عملوا بواجبهم في قتال أعداء الله توجهوا إلى الله بالدعاء، قال الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين﴾.
أهمية الدعاء
والمتأمل في الشريعة الإسلامية إجمالاً وتفصيلاً سيعرف عظمة الدعاء وأهميته، فالصلاة في مجملها دعاء أولها دعاء (الفاتحة) وآخرها دعاء (الصلاة على النبي وآله) ولأهميته جعله الله الغاية والمقصد من إنزال البأساء والضراء قال سبحانه فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} فالوصول إلى حالة الضراعة والتذلل والرجوع إلى الله سبحانه هي الحكمة من وقوع الابتلاءات،
نموذج للدعاء
جاء القرآن بنماذج كثيرة يعلمنا الله من خلاله كيف ندعوه وما هي أهم الدعوات التي يجب أن نرددها في طريقنا إليه عزّ وعلا، فسورة الفاتحة التي هي أعظم سور القرآن وهي السبع المثاني وأم الكتاب، تعلمنا كيف نطلب الهداية التي هي أعظم مطلوب وأهم مقصود نطلبه في كل صلاة نطلب من الله أن يهدينا في كل شيء لما هو الحق والصواب وأن لا نخالف الحق سواء بعمد (مغضوب عليهم) أو بدون عمد (ضالين).
آداب الدعاء:
للدعاء آداب كثيرة منها:-
أن يشتمل على الحمد والثناء على الله سبحانه بما هو أهله، ولنا في النموذج الأعظم للدعاء (الفاتحة) خير مثال، كيف بدأت بالحمد والثناء على الله بأن كل المحامد العظيمة والثناء الجليل مستحق لله سبحانه، وأنه رب كل شيء يدبر أمر هذا الوجود وما فيه من كائنات، وأنه الرحمن الرحيم، وأنه مالك الأمر يوم الحساب والجزاء، ثم اعتراف بالعبودية وبالحاجة إلى الاستعانة بالله جل وعلا، ثم بعد ذلك جاء الطلب من الله أن يهدينا الصراط السوي في كل أمور الحياة، ولأهمية الحمد في قبول الدعاء علمنا الله سبحانه أن نقول في الصلاة (سمع الله لمن حمده) أي استجاب الله لمن أثنى عليه، وقد قال العلماء: الثناء قبل الدعاء،
وأدعية الأنبياء في القرآن كلها على هذا المنوال، فدعاء يونس في بطن الحوت ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بدأ بتوحيد الله لأنه الأساس المتين، ثم ثنى بالتسبيح، ومعناه التنزيه لله من كل عيب ونقص، ومنه الظلم، فالله لا يظلم العباد مثقال حبة من خردل، فما أصاب نبي الله يونس كان بسبب منه لا من الله جل وعلا، ثم قال: ﴿إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ اعتراف بأن التقصير من جهة العبد، فهو الذي يظلم نفسه، وهو المتسبب بما يقع عليه بسبب ذنب صدر منه، فهذا الدعاء اشتمل على توحيد وتسبيح وإقرار واعتراف، وقد قال لنا الله سبحانه في يونس: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ سننجي المؤمنين كما أنجينا يونس، فالمصائب والهموم والغموم نتائج أفعال صدرت من الناس، فإذا عاد الناس إلى الله متوجهين إلى توحيده وتنزيهه مقرين معترفين بأن التقصير منهم وأنهم هم الظالمون بسبب ذنوبهم فسوف يأت الفرج من الله كما فرج على يونس عليه السلام.
حسن المعرفة بالله، وحسن الظن به تعالى، فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «لو عرفتم الله حق معرفته لزلزلت لدعائكم الرواسي» وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».
الدعاء بالأسماء الحسنى فهي باب واسع لمعرفة الله والثناء عليه وقد أمر الله سبحانه عباده بقوله: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
الصلاة على النبي وآله فهي جواز للدعاء ومصدر للرجاء؛ لأن الله أكرم من أن يقبل دعوة ويرد أخرى.
الإلحاح في الدعاء حتى يتبين من العبد صدق الطلب لأن الإنسان قد يطلب شيئاً بلسانه دون قلبه، أو يطلبه بقلبه لكنه غير مهتم بتحقق طلبه كمن يطلب من شخص مثله شيئاً كبيراً دون أن يظهر منه جدية في الموضوع، فكثرة الإلحاح على الله مطلوبة، فقد ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله يحب الملحين في الدعاء».
فإننا أخي المؤمن نطلب الخلود في جنة عرضها السماوات والأرض، فالسلعة غالية، ونطلب العتق من النار رغم أننا قد ارتكبنا ذنوباً، فلابد أن يظهر في سلوكنا وأعمالنا ودعائنا أننا نريد النجاة فعلاً من الله سبحانه.
اعتقاد أنه لن يحقق مطالبك إلا الله سبحانه دون الإلتفات إلى غيره، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ولا مفر من غضبه إلا إلى رحمته، فهذا هو الإخلاص، فقد قال سبحانه: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾،وهذه الحالة هي التي كان يصل إليها مَن في غمرات البحار عندما يأتيهم الموج من كل مكان قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ فقد وصلوا في تلك الحالة إلى يقين أنه لن يستطيع أحد أن ينجيهم إلا الله، ولذا جاء في بعض الآثار أنه إذا أردت أن يستجيب الله دعائك فادعوا الله كشخص يغرق في البحر ولا منقذ له إلا الله، فندعوه دعوة المضطر لأنه سبحانه يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾.
وقد علمنا القرآن في دعاء آدم وزوجته عندما قالا: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فقد وصلوا إلى أنه لا طريق ولا نجاة إلا أن يغفر الله لهم ويرحمهم وما دون ذلك خسران مبين، وهذا ما على العبد أن يحققه في ذهنه، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾.
حسن الطاعة لله والإقلاع عن المعاصي: لأن إحسان العمل كالشرط لإجابة الدعاء قال تعالى بعد الترغيب في الدعاء : ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ فالاستجابة لله في أوامره ونواهيه شرط لإجابة الدعاء، وكذا الوثوق والإيمان بالله وبوعده شرط آخر وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ لأبي ذر رحمه الله «يا أبا ذر الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر»، وقال الله سبحانه لموسى وهارون علهيما السلام عندما دعيا على فرعون ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فقد علق إجابة الدعوة بالاستقامة على نهج الله سبحانه.
التوسل إلى الله بأعمال الطاعة وأهمها الفريضة كالصلاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله فآية ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾ جاءت بين آيات الصيام إشارة إلى أن دعاء الصائم أكثر قبولاً واستجابة من غير الصائم، وكذا بعد أداء الزكاة قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ فقد أمره الله بالدعاء لهم بعد أخذ الزكاة بقوله: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أي أدع لهم، وكذا في الحج دعوة مستجابة ويوم الجمعة لأنها أعظم فريضة في الأسبوع دعوة مستجابة أيضاً وفي الثلث الأخير من الليل.
وفي القرآن نجد أن الله يعلمنا أن نجعل الإيمان الوسيلة إليه؛ لأنه أعظم الفرائض وشرط لقبول الدعاء قال تعالى: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾.
الدعاء برجاء وإشفاق أي بطمع وخوف، فالداعي عندما يتوجه إلى الله يجعل نصب عينيه الجنة والنار فهو يسأل من الله أن يدخله هذه ويستعيذه من شر هذه قال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ وقال في صفة المؤمنين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ وقال عن أنبيائه ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾ ويتبع هذا الدعاء بتضرع وخفية لأنه سبحانه يقول: ﴿تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ وإخفاء الدعاء أفضل من إظهاره لهذا قال الله سبحانه عن زكريا: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾.
الاعتداء في الدعاء
قال الله سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، قد فسر العلماء الاعتداء في الدعاء بتفسيرين أحدهما التجاوز وهو أن نتجاوز الله وندعوا غيره، والتفسير الثاني أن لا نعتدي في الدعاء لله أي لا ندعوا مثلاً بإثم أو قطيعة رحم ، ولا ننسى الله وقت الرخاء وندعوه وقت الشدة، فنسيان الله سبحانه وقت الرخاء قد يمنع الإجابة جاء في الأثر أن «من تعرف الله في الرخاء تعرفه في الشدة» ونجد أن القرآن الكريم قد ذم الذين لا يدعون الله إلا عند البلاء أو المرض أو ما شابه ذلك قال سبحانه: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ وفي موقف آخر يبين لنا القرآن بعض هذه النماذج بقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومن الاعتداء في الدعاء استعجال الإجابة فقد جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يزال المرء بخير مالم يقل دعوت فلم أُجَب» وتأخر الإجابة يكون لحكمة عظيمة هي أنفع للداعي قال الإمام علي عليه السلام: (إن رحمة الله لا تغلب حكمته فلذا لا تقع الإجابة على كل دعوة).
وللإمام علي كلام عظيم في وصيته لابنه الحسن عليهما السلام (فَلَا يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآْمِلِ ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْ ءَ فَلَا تُعْطَاهُ وأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ ويُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ ولَا تَبْقَى لَهُ).
فأنت أخي القارئ الكريم ترى أن الإمام علياً يوضح أسباب تأخر الإجابة فالإجابة أولاً على قدر النية أي الإخلاص لله في المسألة ثم يوضح أن الدعاء الصادر من العبد مستجاب قطعاً وأن الله سبحانه سيختار له أحسن صور الاستجابة ؛ لأنه العالم بما يصلح العبد ولذا قال تعالى: { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} فالإنسان قد يدعو بأشياء لو تحققت في ذلك الوقت لكانت شراً بالنسبة له ، فالله سبحانه يعلم الزمان الأفضل للإجابة ، فليوكل العبد مسألة الإجابة إلى العليم الخبير، ومع الدعاء تكون كل حياة الإنسان سعادة ، ألا ترى إلى بعض الأنبياء وهو يقول { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فمع ملازمة الدعاء يستحيل وجود الشقاء في حياة الداعي ؛ لأن الدعاء المستمر لله سوف يحيل الشقاء إلى سعادة، والحزن إلى سرور، ومع الله سبحانه يكون للحياة قيمة، وتأمل قول أهل الجنة الذي حكاه الله تعالى عنهم عندما قالوا { قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ *فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فهم يتكلمون أنهم قد لمسوا سرعة إجابته وسعة عطيته، ورأفته ورحمته، فقد أجملوا أعمالهم كلها -التي كانت سبباً في دخولهم الجنة – في الدعاء؛ لأنه خلاصة الأعمال ومخ العبادة.