ذمار وتوأم الأساطير الجبري وأبو قاصف أنموذجاً.!
فؤاد الجنيد
كثيرة هي الروايات والأساطير التي وصلت إلينا من الزمن الغابر وهي متخمة بالخيال والسيناريوهات الخارقة للعادة لتصف لنا وقائع خالدين في الذاكرة سطروا ملاحم وبطولات استحقت أن تكون جزءاً من تأريخنا الناصع، لكن عظماءنا بتضحياتهم ومواقفهم كمموا أفواه الفصاحة وحيّروا أقلام الكتاب، وجعلوا ممن يكتب عنهم عاجزاً عن التعبير ومتوسلاً اللغة في أبجدية جديدة تسطر أساطير الاسطورات.
هم رجال رضعوا من ثقافة القرآن حولين كاملين، ثم ترعرعوا في أحضان المسيرة القرآنية، تغدقهم بدفء الروح وتمنحهم جرعات التربية والأخلاق، تحفر في صدورهم حب الجهاد وعشق الاستشهاد، وتسقي أكبادهم بواجبهم المسؤول تجاه هذا الدين الذي بات غريباً يشكو هجران أهل زمانه وانصرافهم إلى أديان أخرى بموالاة أئمة الكفر سراً وعلانية.
عبدالقوي الجبري، ذلك الأسير الذي دفن حياً وعرقه لم يجف في التنكيل بآسريه، وأنت ترى مشهد لحظاته الأخيرة في مشوار العاجلة التي ختمها بوسام الشهادة؛ سترى ليثاً يزأر في عرينه الترابي، وجبلاً شامخاً لا تهتز اوتاده، وموقفاً كافياً يترجم عقيدة المؤمنين وعزيمة المجاهدين وإصرار الكرارين.
هو إبن ذمار الشموخ ومديرية جبل الشرق المتدلية بالسحاب ووميض القمر، يروي تفاصيل رسالته للعالم الأصم والمستديرة الصامتة بحزمات المال وبراميل النفط، وهذه هي تفاصيل القصة على لسان أبلغ الأقلام:
سُب عبد الملك! سُب عبد الملك! سُب عبد الملك!
يصرخ في وجهه شُذاذ الآفاق، وعبيد المحتل ونعاله، وقد دفنوه وصوبوا الرصاص تجاهه؛ فيُطرق برأسه لعشر ثوان، يفكر ويفكر، في موقفٍ يعجز عن التفكير فيه أشجع الشجعان وأقوى الفرسان..
وضع رأسه على التراب وهو يتأمل جسده المدفون، والرصاص المُصَوب نحو رأسه تنتظر إشارة الشيطان، لكنه كان في عالمٍ آخر، وكأني به قد رفع رأسه إلى عنان السماء بكبرياء وشموخ، وامتلأ قلبه باليقين، ورأى النور الإلهي والمَدد الرباني، وأرسل الجواب إلى قائده الذي يطلبون منه سبه، أرسل رسالته واضحة جلية بعد أن جمع أصابع كفه اليمنى وقذَفَ ” بقبلةٍ” تخرج من بين التراب والرصاص، أرسلَ “قُبلته” إلى قائده، وكأنها صاروخ باليستي مجنح، أصابت العملاء بحيرةٍ وخيبةٍ وهزيمة.
أرسلها بطلٌ، لا أدري ماذا أسميه” الشهيد الحي” ” أم الحي الشهيد” فقد كانت لحظاته لحظات صراعٍ نادر بين حياة وموت وموت وحياة، لقد اختار الحياة الأبدية خاتماً حياته ” بقبلةٍ” سيسطرها التأريخ في أنصع كتبه، أن رجالَ قائدٍ يمني يرسلون له القبلات وقد دفنت أجسادهم، وصوبت النيران فوق رؤوسهم، في مشهد نادر ومؤثرٍ وفريد.
وفي الجهة الأخرى يسطر أبن وصاب العزة والإباء «عيسى أبو قاصف» ملحمة الحجارة التاريخية التي تبدو للإعجاز أقرب من الإنجاز وهو يثبت شامخاً بدون سلاح ومنكلاً بالأعداء بمفرده بعد أن استشهد رفيقه، ولم يجد سوى الحجارة سلاحاً منحته نصراً كان الله قد كتبه وأذن به، ولكي لا يبدو حديثي عن هذا البطل مجروحاً كون البطل من أبناء ريف قريتي الشامخة القابعة في أطراف مديرية وصاب، سأسترسل بحديث القلم الرائع إبن الحالمة «صلاح الدكاك» وهو يطرز شهادته بكلمات فوق مخيلات الأكشن. يحتفظ «الإعلام الحربي» لجيشنا اليمني ولجاننا الشعبية، بوفرة من الخوارق البطولية التي يجترحها رجالنا في مضامير المواجهة مع تحالف قوى العدوان الأمريكي، وكما يؤكد زميلنا البديع يحيى الشامي في خاتمة تقريره عن مشهد المقاتل بالحجار في جبهة «البيضاء»، فإن المشهد الذي شهدن ملايين المشاهدين، ليس إلا نزراً من كثير مشاهد توثق بالصوت والصورة وقائع بطولية، لو رويت مشافهة لما أمكن لصديق ـ عِوضاً عن عدو ـ تصديقها.
«عيسى أبو قاصف» بطل مشهد «البيضاء»، ليس كائناً مفارقاً للطبيعة البشرية، بل مجاهد تنضح خلف أضلاعه ينابيع إيمان كفيلة بأن تكسر مقاييس الممكنات التي بمقدور مخيلة؛ لم تخبر الطاقة الخلاقة للإيمان، أن تستسيغها كمصاف أعلى لفعل فذ ومغاير.
لا يعرض «إعلامنا الحربي» مقاطع «أكشن» يستهدف بها استقطاب أكبر عدد من المشاهدين على وسائط الاتصال التقليدية والإلكترونية، كما أننا لا نرمي لاستعطاف الأفئدة بعرض أشلاء أطفالنا من ضحايا مجازر العدوان في المدارس والمنازل والطرقات، فإننا لا نرمي لتحطيم أرقام مشا هدة قياسية بعرض بسالة رجالنا في جبهات العزة والشرف. في الأولى نحن نرمي لإجلاء حقائق مظلومية شعبنا التي تجتهد ترسانة ميديا العدوان الكونية في حجبها وإعدامها والتدليس عليها، لنقيم الحجة على العالم المنافق والمحايد والمتواطئ والوالغ في دمنا. وفي الأخرى نحن نرمي لإجلاء مشروعية الرد انتصافاً لمظلومية لا مناص للجحود بها، كما وإجلاء مستوى ما نحن عليه من ثبات ورسوخ وإيمان بهذه المظلومية الجلية للأبصار، ومستوى جهوزيتنا للتضحية في سبيلها لا بطراً ولا أشراً ولا عدواناً على أحد، وإنما نشداناً لردع الاستكبار وجلاديه عن لحمنا ودمنا وترابنا وحقنا في حرية بلدنا واستقلال قرارنا الوطني، وإرساءً لقواعد سلام لا ذلة فيه ولا ضعة!
هل تقرأ عوينات العالم ما وراء بطولات مقاتلي جيشنا ولجاننا، من قضايا عادلة وحقوق لا حيف فيها ولا جدال، ومشروعية وجود إنساني تتجلى أشواق بلوغه لاهبةً متوقدة من محاجر «عيسى أبو قاصف» ورفاقه الأبطال الذين يجترحون المعجزات بدافع من هذه الأشواق الإنسانية الدفاقة النقية، لا بدافع النجومية في حلبة «مجالدة رومانية» مكتظة بقطعان المتعطشين للإثارة الناجمة عن فرط وحشية المجالدين وتهاوي الفؤوس الضخمة وجندلة الأعضاء وفوران الدم البشري!
لسنا موضوعاً للرثاء ولا لفغر الأفواه دهشة.. نحن شعب يشق بالأظافر والمحاجر طريقه إلى الحرية الخالصة وسط غابة من الخذلان والنفاق العالمي.