*المناضل السبتمبري عبدالله محمد بشر لـ”الثورة”:
*كيف هرب جونة العواضي وهو أسير من قبضة الأمن السعودي وتمكن من اجتياز الحدود، ولماذا نقلوا السكري والوشلي من جيزان إلى أبها؟!
خاص- الثورة:
يتحدث في هذا اللقاء إلى صحيفة “الثورة” لأول مرة ، عبدالله محمد بشر جازم، أحد مناضلي ثورة 26 سبتمبر، حيث التحق بصفوف الثورة من عامها الأول. وكجندي شاب وفدائي تلقى تدريبا عاليا في اليمن ومصر، ثم أرسل مع زملاء له إلى أصعب الجبهات وأشرسها يقاتل دفاعا عن الجمهورية مشفوعا بفكرة الوقوف في وجه الرجعية السعودية ومن ورائها الإمبريالية العالمية والاستعمار.
ولد عبدالله بشر في قرية معروفة في عزلة “اليوسفيين” التابعة لناحية القبيطة سنة 1947،وتلقى تعليمه الأولي في “عدن”، في مدرسة خاصة يملكها بازرعة، وهي ذات المدرسة التي كان المناضل أحمد محمد الشامي يدرس فيها (قبل عشر سنوات) الطلاب العرب علوم الدين واللغة وعلم البديع في الأربعينيات إبان هروبه من ولي العهد سيف الإسلام احمد بن يحيى حميد الدين.
في هذا اللقاء يتحدث الرجل إلى الزميل “علي حسين”، عن بدايته النضالية وجانب يسير من تجربته الغنية في الدفاع عن الثورة، ثم عن 7 أشهر قضاها في سجون السعودية كأسير حرب، والمعاملة القاسية التي كان الأمن السعودي يتعامل بها مع اليمنيين السجناء في تلك الأيام، وهم بالمئات، وكيف تعاملت القبائل اليمنية الملكية معهم باحترام وكيف حفظت كرامتهم عندما وقعوا أسرى في جبال رازح.
كيف هرب جونة العواضي من قبضة السعوديين وهو أسير، وتمكن من اجتياز الحدود، ولماذا نقلت السلطات السعودية قائد الكتيبة الثالثة، المناضل عبدالكريم السكري، وهو أسير من جيزان إلى أبها، خوفا من الهروب. هذه التفاصيل وغيرها يرويها هذا المناضل السبتمبري الجسور عبدالله محمد بشر جازم في هذه المقابلة النادرة:
* عبدالله بشر أنت مناضل قدير من جيل سبتمبر، واليوم وبعد مرور 56 عاما على ثورة 1962، أنت شاهد على حقبة أكثر من نصف قرن أين نجحت سبتمبر وأين أخفقت؟
– من الصعب في لقاء عابر أن يقيم شخص أحداثا عظيمة كأحداث 26 سبتمبر، بعد 56 سنة زاخرة بالأحداث، إلا اذا كان هذا الموضوع قد أُعد له وسجل عبر المراحل المختلفة للثورة ، وما جرى من تغيير وأحداث عظيمة وبالذات في مراحلها الأولى حيث اضطلعت ثورة سبتمبر، وهي في معمعة النضال لمواجهة الحملة الرجعية الاستعمارية، التي حاولت وأدها في مراحلها الأولى لولا تدخل مصر العظيمة – مصر عبدالناصر. فقد تشارك الثوار اليمنيون وأشقاؤهم من أبناء مصر الكنانة في خوض غمار معركة الدفاع عن الثورة ، وصد العدوان السعودي البريطاني ، ذلك العدوان الذي واجهته اليمن من شمالها وجنوبها وشرقها. وفي ظل هذا الزخم الثوري لم يكتف الثوار بالدفاع عن ثورتهم ولكنهم باشروا فورا بإضافة مهمة عظيمة في التخلص من الاستعمار في جنوب الوطن الحبيب وهيأوا الظروف بكل الإمكانيات لقيام ثورة 14 أكتوبر 1963، أي أنهم اجترحوا هاتين المهمتين : الدفاع عن ثورة سبتمبر وقيام ثورة أكتوبر خلال عام واحد.لقد كان دور الأشقاء المصريين وزعيم الثورة العربية جمال عبدالناصر دورا أخلاقيا ووطنيا وتنمويا حيث لم يحضر المحارب المصري للدفاع عن الثورة عسكريا فحسب، بل حضر المقاول لبناء المدارس وجاء المهندس لتخطيط وشق الطرق وجاء المدرس لينتشل المجتمع من الجهل والتخلف وسارت عملية الدفاع في المعركة مع بناء المدارس والتعليم وأيضا إنشاء الإدارة بمساهمة عدد كبير من الخبراء الذين أقاموا شبه دولة حديثة. ولا ننسى هنا دورهم في إيجاد اللبنات الأولى للاقتصاد اليمني والإدارة الحكومية وبناء الدولة وفي مقدمتهم الدكتور عبدالغني علي أحمد مؤسس القطاع العام في اليمن.
هذا المنعطف الأول أما الثاني: فقد تمثل في إخراج اليمن من عزلتها، وفتح علاقات مع الدول الشقيقة والصديقة الذي كان من فوائده حصول اليمن على المساعدات وفي مقدمتها بناء المستشفيات والمدارس وشق الطرقات ، ونخص بالذكر مساهمة الإتحاد السوفيتي سابقا ودول المعسكر الاشتراكي والجزائر الشقيقة. لقد عملت الثورة على تنفيذ أهم أهدافها في القضاء على الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما والشروع في بناء جيش وطني وانتشال البلد من الجهل والمرض، وإن لم تتمكن بالشكل المطلوب من انتشال الفقر وتحقيق العدالة نظرا للتآمرات التي واجهتها الثورة وأهمها حرب 1967. تلك الحرب لم تمكن أشقاءنا المصريين من استكمال دعم الثورة حتى تحقق أهدافها، حيث تمكنت القوى الرجعية من خلخلة الصف الجمهوري، والتوجه نحو مصالحة كما أُسميت ليؤدي ذلك إلى: 1- إرهاق القوى الثورية الجديدة جراء الحملة الشرسة التي استهدفت الثورة من خلال حرب السبعين يوما وبالرغم من انتصار القوى الجديدة في تلك الحرب وتثبيت دعائم الثورة إلا أن المؤامرات في شق الصف الداخلي استمرت، والذي أدى إلى تصفية القوى الجديدة (أداة الثورة) ومن ثم إضعاف الجانب الجمهوري الإصلاحي، الذي لم يتمكن بعد ذلك من السير نحو بناء الدولة وتحقيق العدالة بالرغم من محاولة القاضي الإرياني تجاوز العواصف وبناء الدولة من خلال النهج الوسطي الذي اتبعه، والتعاطف الذي أوجده إلى الصف الجمهوري من خلال الحصول على كثير من الدعم والمساعدات في مجال التعليم والبناء الإداري وإيجاد البنى التحتية إلا ان العواصف ثبتت دعائم الفساد الذي استهلك الكثير من المساعدات والمنح وحال ذلك دون الوصول إلى التنمية الشاملة واستكمال البنية التحتية للدولة اليمنية والاقتصاد اليمني. فجاءت على إثر ذلك محاولة تغيير جديدة تمثلت في حركة 13يونيو التصحيحة برئاسة الشهيد إبراهيم الحمدي الذي حاول جاهدا مواصلة جهد سلفه عبدالرحمن الإرياني وتمكن في المرحلة الأولى من إيقاف أقطاب الفساد والسير في اتجاه التحديث وبناء الدولة وتحقيق الانتعاش الاقتصادي إلا أن قوى الفساد استطاعت أن تضع حدا لهذا التوجه باستهداف شخصه والقضاء عليه، وتعتبر هذه من أهم عوائق الثورة ومسيرتها.
* لماذا تقف المملكة العربية السعودية دوما في وجه أي تحولات تقطعها اليمن بالنظر إلى كل ما حصل ويحصل إلى اليوم؟!
– (مبتسما).. التزاما بوصية (الوالد)..أي تحولات في اليمن منذ السادس والعشرين من سبتمبر فهي تشكل النقيض لسياسة أنظمة فردية أسرية وراثية.
* البعض يرى أن الثورة استهدفت فئة من المجتمع، ولعل هذه احدي المآخذ على سبتمبر من وجهة النظر هذه…
– أنا ضد هذه التسمية . ثورة سبتمبر ثورة وطنية تجاوزت هذه الأفكار المتخلفة وأتذكر عندما كان الدكتور عبدالرحمن البيضاني يثير قضية القضاء على الحكم الهاشمي بهذا الوصف السلالي ، من إذاعة صوت العرب، قدم الفقيد عبدالله جزيلان احتجاجا إلى السفارة المصرية على ما يرد من إثارة النعرات بين أبناء الشعب اليمني الواحد، وقال للقائم بالأعمال : قولوا لصاحبكم إن معظم ضباط الثورة من الهاشميين وأبرزهم محمد مطهر زيد المنقذ للثورة عندما لم تتمكن الدبابات من اقتحام قصر البدر فقد بادر محمد مطهر زيد من مقبرة خزيمة بقصف دار البدر وإلى جواره هناك في تلك اللحظة يحيى المتوكل.
– لقد كان دور محمد مطهر زيد الإنقاذي شبيها بدور المقدم يوسف صديق في ثورة يوليو 1952. ولهذا لم تكن سبتمبر ثورة تمثل طبقة بل كانت ثورة الشعب اليمني كله ولقد حاولت فعلا أن تحتضن كل أبناء الشعب ولم تختكر الوظيفة لأي فئة بل كان الهاشميون في أهم مواقع الثورة والدفاع عنها وذهب معظم الثوار شهداء من هذه الفئة التي يتهمون الثورة أنها ضدهم فمحمد مطهر زيد استشهد وهو رئيس الأركان وعلي عبدالمغني استشهد وهو في طريق مارب للدفاع عن الثورة والحمزي استشهد في قلعة سنوان في أرحب التي كانت تحتوي على كثير من المال والمعدات وفجر نفسه فيها لكي لا يحصل الملكيون على هذه الإمكانيات ولا ننسى أيضا أوائل الشهداء الشراعي والمحبشي وغيرهم.
* كنت أسيرا لدى السعودية في سجن جيزان ، نود أن تصف قصة الأسر وكيف تعاملت معكم قوى العدوان وأنتم أسرى حرب وكم كان عددكم حينها؟
– التحقتُ بالحرس الوطني وتشكلت منا كتيبة سميت بالكتيبة الثالثة من لواء النصر، حيث كانت هناك كتيبتان من هذا اللواء الأولى في الحيمة بقيادة الفقيد علي صالح الحوري والكتيبة الثانية كانت في جبل النبي شعيب ولأن الكتيبة الثالثة ( كتيبتنا) قد تدربت تدريبا عاليا في تعز حيث كانت تعد كتيبة فدائيين للمشاركة في ثورة أكتوبر إلا ان الحاجة اقتضت أن تستكمل هذه الكتيبة التدريب في مصر ثم العودة إلى صنعاء ثم إلى صعدة وتوزعت الكتيبة حول صعدة في كل من : السنارة، ووادي نشور والجبل الأسود في مجز، وكنت من ضمن الذين ترتبوا في هذا الجبل، وراس هذا الجبل قمتان كان القائد محمد عبدالله القطاع في التبة الجنوبية وإنا في الشمالية وحدث موقف ظريف، يدل على مبالغة الإعلام الحربي للملكيين حيث كان هناك من ضمن المجموعة جندي علي عبدالله حسن من دمنة خدير ولُقب هذا الجندي بشاووش 13 وكان ثقيل الجسم وفي صباح يوم من الأيام صحيته ليذهب للمترس ليحل محل زميله، وقام متكاسلا ورمى بنفسه رميا في المترس سبب ذلك سقوط احد أحجار المترس إلى تحت الحيد فوقع على لغم وهنا قام كل الإفراد في حالة فزع وناداني القائد محمد القطاع من التبة الجنوبية ماذا حصل يا بشر؟! فقلت له: سلامات لم يحصل شيء، فقط حجرة وقعت من مترس شاوش 13 وقعت على لغم وانفجر ولم يحصل شيء، واطمأن الإفراد وعادوا إلى مواقعهم. والمضحك: أن في نشرة الساعة الثالثة والنصف عصرا لإذاعة الملكيين أُذيع كما قالوا (بيان هام) : قامت قواتنا المنصورة بالله بالهجوم على مواقع الفراعنة وعملائهم وقتلت منهم:13 شاوش، وأضافوا إليها مجموعة من الضباط والحرس(بناء على المكالمة الصوتية).
بعد فترة انتقلت بقيادة المناضل عبدالكريم السكري إلى جبل رازح لدعم كتيبة هناك من لواء الثورة، وبعد فترة قررت القيادة تحرك هاتين الكتيبتين بقيادة السكري لتتحرك إلى مديرية شُدا، على أن تقترب القوات المصرية من حرض عبر عاهم والملاحيظ لتلتقي القوتين وتغلق المنفذ الشمالي الغربي بحيث لا يتسرب الدعم السعودي للملكيين الذي كان يصل إلى الحيمة من هذه المنطقة . وهنا أعد الآخر عدته الكبيرة حتى يتقي هذا الإغلاق. هذا من جانب ومن جانب آخر كان أصحاب منطقة رازح قد استدعوا الجمهورية لتتسلم المنطقة قبل مجيئنا، لكن تسلمت المنطقة قوات قبلية أساءت التصرف مع الناس فاضطر أبناء المنطقة وهذه شهادة للتاريخ، اضطرت القيادة اضطرارا أن تصحح هذا التصرف، بوجود قوة حديثة ارتاح المواطنون لتواجد هذه القوة (كتيبة لواء الثورة وكتيبة لواء النصر)، وعند انتقالنا إلى رازح كانت علاقتنا بالأهالي طبيعية ، لكن عندما شعر الأهالي أن قواتنا ستتركهم وتتحرك إلى منطقة أخرى خافوا ان يكون البديل لنا جيشا قبليا فوجهوا للمناضل عبدالكريم السكري إنذارا : اذا نقلتم وجاءت قوات قبلية بديلة فإننا سنضطر إلى حصاركم ، طبعا بعد الإشاعة التي مفادها أن هذه القوات التي انتم مرتاحين لها ستأتي قوة قبلية مكانها، فكان في إنذار مشائخ رازح للسكري اذا بقيتم فنحن وسلاحنا معكم وإذا انسحبتم فسنواجه أي قوة جديدة ونحاصركم ولما لم تستجب القيادة لهذا الإنذار فتح الأهالي مناطقهم لدخول جيش البدر والدعم السعودي فحوصرنا ثلاثة أشهر، حتى انتهت مؤننا وذخائرننا وتلفت الأسلحة. حاولت القيادة ان تفك الحصار عنا وجاءت بحملة كبيرة بقيادة حسين الدفعي وزير الدفاع الذي وصل إلى رأس جبل رازح من جهة شرق ولم تتمكن قواته من الوصول إلينا في مركز مديرية رازح والجبال المحيطة بها وانسحب الكثير من قوات الدفعي وحوصر هو الآخر معنا. ثم جاءت قوة كبيرة حتى وصلت إلى رأس جبل رازح (أحرُم) موقع الدفعي وما ان وصلت حتى انسحب ولم يوجه القوات بالاستمرار إلى الوصول إلينا فاعتبرت القوات ان مهمتها انتهت وانسحبت وارءه.
ولم يبق في قلعة احرم، التي تحوي الكثير من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة لم يبق فيها الا البطل الملازم حينها اللواء حاليا عبدالله ناجي الحرازي الذي دمر جزءا كبيرا من هذه القوة وعندما رأى الملكيين حوله انسحب ولحق بالدفعي. واستخدمت بعدها الأسلحة المتبقية لضربنا من الأعلى مما ضاعف الضحايا في صفوفنا وطرح على المناضل السكري تنظيم بقية القوات وفتح ثغرة للانسحاب الا انه كبطل وفي أقسم انه لن ينسحب ويترك هذا العدد من الجرحى، واستمرينا حتى انقض علينا الملكيون والقوا القبض علينا لأننا لا نملك الذخائر، وأخذنا عبر المخيم المنصور شمال جبل شدا ومنها إلى سجن جيزان.
ويمكن لي ان اروي بعض القصص التي وقعت أثناء التفاوض معنا لتسليم أنفسنا: طبعا بعد الحصار الشديد علينا أكلنا أوراق الشجر ونفدت الذخائر تماما ، وكنا نوهم الملكيين إننا في أفضل حال ولدينا الكثير من الأسلحة والعتاد، والواقع لم يبق معنا سوى قنبلتين، لذا قررنا التالي: في حال اوشكنا على الهلاك واقترب العدو منا نجتمع في غرفة واحدة ونفجر القنبلتين ونموت ولا نستسلم..كان الوضع رهيبا وكنا محاطين من كل جهة كالطوق، وفي أحد الأيام جاءنا الشيخ الفاضل المرحوم علي أحمد العزام، رحمه الله، وهو شيخ ضمان في رازح،وكان ينوي مواجهتنا هو وأصحابه، وصاح علينا يا أولادي لماذا نقتل بعضنا بعض، سلموا أنفسكم وانتم في وجهي وكفى الله المؤمنين شر القتال، انزلوا من الحصن وأنا سأسلمكم للإمام ولن يمسكم أي مكروه، لكننا رفضنا هذا العرض وكنا نفاوضه على الانسحاب فقط، وبعد اخذ ورد، وإلحاح من الشيخ، نزلت انا لمقابلته، واتجهنا انا وهو فقط (الشيخ علي احمد العزام) إلى داخل غرفة في حوش الحصن، وكان رجاله بالعشرات مسلحين يملأون الحوش، في حين كان معي زميل واحد فقط من وصاب يحرس الباب. أما بقية أفراد السرية (الزملاء)، فكانوا في مواقعهم داخل الحصن منتظرين نتيجة المفاوضات بيني وبين الشيخ العزام، وقد استمرت المفاوضات بيننا أكثر من ساعتين، لكن أصحاب الشيخ تضايقوا وحاولوا كسر الباب ويدخلوا علينا وهم متذمرين نتيجة طول المفاوضات وتأخرنا، كانوا يصيحوا ضيعت وقتنا ياشيخ أنت وهذا الجاهل، هيا اخرج ميهمك نقتحم ابو الحصن.. لحظتها صاح زميلي الواقف عند الباب وهم يحاولون كسره بالصبرة، صاح زميلي بأعلى صوته لزملائنا في الأعلى : أطلقوا الصواريخ أطلقوا الصواريخ، كإشارة تخويف فقط، لكن زملاءنا داخل الحصن المطل على المكان، فهموا إنني قُتلت فرموا بالقنبلتين الوحيدتين اللتين بقيتا معنا إلى وسط الحوش المكتظ بالمقاتلين المرافقين للشيخ علي العزام، وأحدثت القنبلتان مجزرة رهيبة فيهم، وقد خرجت أنا والشيخ من داخل الغرفة إلى الحوش ومشينا وسط الجثث، وعندما عاتبت زملائي على هذا التصرف الأحمق، شرحوا لي القصة حيث ظنوا ان الشيخ وأصحابه غدروا بي.. لحظتها ذهب الشيخ يدفن الجثث وبعد يومين جاء يصيح كالمرة السابقة يا أولادي سلموا أنفسكم في وجهي فنزلت لملاقاته واتفقنا هذه المرة على تسليم أنفسنا إليه وهو يضمن لنا ان لا يحصل شيء ويسلمنا للإمام البدر. كانت بنادقنا فارغة وكان الزميل الذي رمى بإحدى القنابل هو المناضل المعروف سيف غالب الزجا، وعندما سلمنا أنفسنا كان اصحاب الشيخ يحاولون قنص زميلنا سيف الزجا حيث وهم رأوه هو الذي رمى بالقنبلة الاولى على اصحابهم وسط الحوش، لكن ذلك الشيخ الوفي بطبعه الكريم وشهامته العربية نهر أصحابه بشدة وحذرهم من المساس بأحد: والله والله لو واحد يطلق طلقة أنها البورة، وعندما وضح له أصحابه قائلين : ياشيخ هذا الشخص قتل أصحابنا، رد عليهم الشيخ العزام قائلا: ولو.. هي حرب، ما شركة الا بمرق.. كيف تشتوا حرب وما تشتوش قتل. الجماعة صاروا في وجوهنا وعيب نغدر بهم ، ما يغدر الا الفسل والجبان. هكذا كان رد الشيخ على أصحابه وهكذا حمانا وأوفى بوعده رحمه الله. كانت لحانا طويلة من طول الحصار وكنا جياعا وعطاشى فاوصلنا الشيخ إلى بيته وذبح لنا وأكرمنا ثم سلمنا لابنه لحمايتنا واستأنف يواصل التفاوض مع عبدالكريم السكري في مركز الناحية، لكن لا يزال هناك من يترصد ويحاول قنص سيف الزجا الذي رمى بالقنبلة، وكانت ابنة الشيخ (البنت) تاخذ الجرمل وتصوبه باتجاه من يحاول ان يطلق النار على زميلنا سيف الزجا، وبعد أن زادت درجة الخطورة اتجه بنا ابن الشيخ باتجاه معسكر البدر في شدا، ولكن البدر اعتذر عن مقابلتنا لأننا لم نسلم السلاح ولم نستسلم الا بصعوبة.
ومن القصص الظريفة أيضا، ونحن في الطريق إلى معسكر الإمام البدر: عندما اقتربنا من مخيم المنصور حيث الإمام البدر، عمل القبائل زامل يقول:
سلام يا بيت النبوة .. مطلوبنا آلة وقوة.. رازح رجال أهل المروة.. جنحتك والريش.
بهذا الموقف كان الذي يسجل زامل واحد لابس دسمان من بيت النعمان ويعلق على انتصاراتهم وطلبوا منا القبايل ان نشل بالزامل معهم فرفضنا وكنت اود انقض على هذا النعماني واخنقه ولأننا رفضنا ان نشل معهم بالزامل وضعونا في غرفة ضيقة وكنا ثلاثين فردا، دون ماء او أكل 48 ساعة ، وكان الشاوش احمد وافي يأتي بماء وسخ من الغيل ويصرخ في الباب من يشتي ماء من يريد ماء ونصرخ بصوت واحد من شدة العطش: كلنا كلنا نريد ماء، فيطرش بالماء إلى وجوهنا والمنطقة في غاية الحرارة حتى كدنا ان نفقد الحياة، لكن سيارات سعودية وصلت وأخذتنا إلى جيزان إلى السجن كأسرى حرب، وفي السجن عاملنا الأمن السعودي بحقارة.
أودعونا سجن جيزان جميعا، ما عدا المناضل السكري وجونة العواضي والوشلي، فقد أنزلوهم في لوكندة أو فندق تحت الحراسة. فتمكن العواضي من الهرب من جيزان، وبسبب هذه الحادثة حادثة هروب الأسير جونة العواضي قرر السعوديون نقل السكري والوشلي من جيزان إلى سجن أبهاء، بعيدا عن الحدود حتى لا يهرب كما فعل جونة العواضي، ولم يخرج إلاّ بعد اتفاقية جدة بين عبدالناصر والملك السعودي فيصل.
عندما دخلنا السجن وجدنا أمامنا داخل السجن أكثر من 300 سجين يمني كانوا قد أُسروا من جبهات مختلفة منهم من مضى عليه أكثر من سنتين وعوملنا في هذا السجن بقسوة ونذالة ونحن أسرى حرب، أهمها رداءة وقلة الغذاء فعملنا إضرابا عن الطعام كان هذا مقدمة لاقتحام بوابة السجن والخروج اذا لم تستجب الطلبات إلاّ ان القوات الأمنية رتبت لذلك ترتيب قوي وشددت الحراسات وجأءت بوايتات ماء فائر إلى بوابات السجن. وكان المقرر بعد الإضراب اذا لم يستجاب لنا ان نقتحم مراكز الشرطة والبوابات والأمن وأخذ الأسلحة وترتيب جيوب دفاعية تمكن من الانسحاب حتى حرض لذلك كانت الحراسة كثيفة لمواجهة هذا الاحتمال.. حصل اشتباك وقتل اثنان من جنود الأمن السعودي وآخر منا وهو من أبناء وصاب وبدأت الأسلحة الرشاشة تضرب بعشوائية على الإنارة وأبواب السجون وتم التغلب علينا. ووضعنا بعد ذلك كل تسعة أشخاص في سلسلة واحدة حتى انه عندما يتحرك فرد للحمام يتحرك الثمانية معه. الا ان مطلبا واحدا تحقق وهو السماح للصليب الأحمر ان يتولى أطعامنا فتحسنت إلى حد ما التغذية وظروف النظافة ، وكنت احد الذين اتيح لهم فرصة بالذهاب إلى المستشفى وتعاطف معي الطبيب صفدر (هندي الجنسية) مدير المستشفى فنسقت معه أن يحاول أن يقنع السلطات السعودية بالإفراج عن المرضى ونجح في إخراج دفعتين من المرضى كنت أحدهم. هذا أهم ما في السجن.
تجدر الإشارة إلى ان هناك أبطالا كانوا في السجن لابد من ذكرهم، ومن هؤلاء البطل الفقيد سيف غالب سعيد (الزجا)، المذكور سابقا، الذي حاول الهرب من السجن وتهريب اثنين بجانبه، ولم يتمكن السعوديون من القبض عليه إلاّ بالقرب من حرض وإعادته. وأحد الاثنين (رفيقي الزجا)، الذي هربا معه من داخل السجن، هو عبدالرحمن مثنى الذماري، حيث قبض عليه بجوار السجن، والآخر وهو احمد الحوشبي فقد لجأ إلى أحد المساجد وظل ثلاثة أيام حتى يئسوا من متابعته وخرج مع قوافل الجمال المتجهة إلى شمال اليمن. حاول الأمن السعودي ضرب سيف الزجا بعد القبض عليه الا أنهم لم يتمكنوا لأنه كان ملاكما حتى بعد أن تم كلبشة يديه لم يتمكنوا فاضطروا لإعادته ألينا.. أما البطل الثاني فهو الملازم حينها الشهيد سعد الرياشي فكان له موقف بطولي عند التحقيقات معه أرعب المحققين حتى أنهم عندما كان يحضروه يخرج بحراسة مشددة وأفراد خوفا من أن يضربهم. كما أشرت كنت في أول دفعة من المرضى الذين خرجوا بمساعدة مدير المستشفى دكتور صفدر في 15 مايو 1965، وأوصلتنا سيارة إلى الملاحيظ ومن هناك كنا سنتوجه إلى حرض مشيا على الاقدام في حدود 6 ساعات، إلا أن مواقع الملكيين منعونا من التوجه غربا وألزمونا بالسير نوبا حتى وصلنا عبس بعد مسير 6 أيام، وبذلك أمضيت في السجن السعودي 7 أشهر. ومن عبس إلى الحديدة ثم إلى صنعاء، إلى وحدتي في جبل النبي شعيب، وخرجت دفعة أخرى من المرضى أما العدد الكبير من الأسرى فخرجوا بعدنا، تحديدا: بعد اتفاقية جدة سالفة الذكر.
* اذا كانت حياتك بدأت عسكريا وأنت اليوم شخصية مدنية، كيف تم هذا التحول؟
– الواقع انه بعد خروجنا من سجن جيزان عدنا إلى وحدتنا العسكرية وكانت كتيبتنا هذه قد ضُم عدد منها إلى الكتيبة الثانية – لواء النصر في جبل النبي شعيب وذهب عدد المفرج عنهم ليلتحقوا بالعمل الفدائي في إطار جبهات النضال في الجنوب ثم ان كتيبتنا في جبل النبي شعيب قد نُقلت إلى طريق رداع – البيضاء وكانت مهمتها منع دخول المشائخ المعارضين للسلال والذين ذهبوا إلى مؤتمر الطائف فعند عودتهم كانوا يسمون (المنشقين) وحتى لا تختلف إلى أُرسلنا رداع لحمايتها، ثم تأمين الطريق للفدائيين المتجهين إلى الجنوب حتى دخولهم الحدود الجنوبية، وعندما تعرضت صنعاء للحصار عُدنا اليها للدفاع عنها حسب تقدير القيادة أن العاصمة أهم من أي مواقع أخرى فتسلمنا جبل براش المطل على نقم وسلسلة التباب شمال نقم إلى ظهر حمير.
– وبعد انتهاء حرب السبعين التحقت بالكلية الحربية وقبل التخرج بشهر سرت علينا التصفيات التي تمت أو استهدفت العناصر التي اعتقدوا أنها يسارية في صفوف الجيش أثناء حرب السبعين وأحلنا إلى الخدمة المدنية التي عملت فيها ودرست حتى تخرجت من الجامعة وتدرجت في الوظائف في الخدمة المدنية ثم مدير عام الشؤون الإدارية والمالية في التخطيط ووكيل لهذا القطاع ثم مستشار الوزارة بعد ذلك، فالتقاعد.
* هل نستطيع الربط بين سياق ثورة سبتمبر في صنعاء وثورة أكتوبر في الجنوب من حيث العدو الخارجي المتآمر على الثورتين بمعنى: كانت بريطانيا والسعودية تخوضان حربا واحدة ضد الثورتين؟
– حرب الثورة كان هدفا لمن استهدفهم الهدف الأول من الثورة: الاستعمار والرجعية، فكان الاستعمار يمول الإعمال التخريبية قي بعض مناطق الشمال ويرسل المجندين إلى شمال الشمال عبر السعودية وكان الأمريكان يتولون الدعم اللوجستي والسعوديون الدعم المالي كهدف مشترك لوأد الثورة ونكاية بالزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر.