تحديات وإمكانيات الاستقلال الدفاعي – الأمني الأوروبي

إن سلاسل الترابط والاتصال بين جانبي المحيط الأطلسي وبعد ما يقرب من 70 عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، واعتماد سياسات تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والأيديولوجية بين الحكومات الأوروبية وأمريكا، بدأت تتضاءل الآن مع ظهور “الفترة الترامبية” في أمريكا، وعلى هذا الأساس لم تعد نظرة كلا الجانبين تعمل بشكل صحيح للحفاظ على التضامن كما في الماضي، ويمكن رؤية علامات هذا الادعاء بوضوح في تصرفات ومواقف القادة الغربيين خلال العامين الماضيين، بما في ذلك جهود واشنطن للحدّ من عبء المسؤوليات المكلفة – ومن وجهة نظر الرئيس غير المحنك للبيت الأبيض – وغير المفيدة للمصالح الأمريكية على مدى العقود الماضية، والتي لم تؤدِ سوى إلى خسائر اقتصادية بالنسبة لأمريكا، ومن ناحية أخرى استياء القادة الأوروبيين الذين يعلنون احتجاجهم عملياً، ومن خلال التناقض مع السياسات الأحادية لترامب.
ومع ذلك، فإن الإعلان عن عدم الرضا من قبل السلطات الأوروبية خلال فترة رئاسة ترامب، لم يتمكن من إحداث أي تغييرات على نهجه، وحل جزء من المشكلات الأوروبية وخاصةً في القضايا العسكرية والأمنية، إذ إن العيش تحت مظلّة الدعم الأمريكي (الناتو) لمدة نصف قرن، قد سلبهم القدرة على التعامل مع التهديدات بشكل مستقل.
تعتبر بروكسل الآن ترامب بمثابة انعكاس لواقع التحول السياسي في أمريكا، وهو تحوُّل نتج عن آثار نهاية العالم أحادي القطبية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وانحدار القوة الأمريكية العظمى في الاقتصاد والنزعة العسكرية، والمجتمع الذي يرى جزءاً كبيراً من هذه العملية ناتجاً عن التكلفة الهائلة لأمريكا والنزعة الربحية لدى حلفاء مثل أوروبا، لذلك، فقد تزايدت جهود القادة الأوروبيين للتغلب على المشكلات والحفاظ على تماسك ووجود الاتحاد الأوروبي.
خلال الأيام القليلة الماضية، دعا الرئيس الفرنسي “إيمانول ماكرون” ووزير الخارجية الألماني ومن خلال تبني مواقف مشتركة، إلى إيجاد آليات للحصول على الاستقلال العسكري والأمني الأوروبي، وطالب “ماكرون” بتنفيذ خطة العمل الأوروبية التي تسمح لكل عضو من أعضاء الاتحاد الأوروبي بالتعاون فيما بينهم، خارج الهيكل القائم للاتحاد الأوروبي أو الناتو من ناحية أخرى، أبدى وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” في صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية رأيه بشأن مراجعة العلاقات الأمريكية الألمانية، داعياً إلى “المشاركة المتوازنة” مع أمريكا.
هذا في حين أن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أيضاً قد أكدت مراراً أنها لم تعد ترى أمريكا حليفاً موثوقاً به تماماً، ويجب أن تسلك أوروبا طريقها لوحدها، بشكل عام، وبالنظر إلى التحديات التي تواجه أوروبا في السنوات الأخيرة، يجب النظر إلى هذه المواقف على أنها ليست طموحات غير واقعية، بل كقاعدة لمراجعة مفهوم الدفاع والأمن الأوروبيين.
في سنوات ما بعد 2010، تغيرت النظرة الجيوسياسية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بسبب سلسلة من الأزمات، مثل الحرب الأهلية الليبية، الأزمة السورية، ظهور تنظيم داعش الإرهابي وأزمة المهاجرين، الأزمة الأوكرانية، وتحرك روسيا لضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها في عام 2014، فضلاً عن الاستفتاء بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد (البريكزيت) ونمو التيار اليميني، وبعد هذه التطورات ووصول ترامب إلى البيت الأبيض، أصبحت قضية زيادة التعاون العسكري والدفاعي بين البلدان الأوروبية، التي ظلت صامتةً لفترة طويلة بالنظر إلى تفوُّق حلف الناتو كمؤسسة عسكرية عبر أطلسية، أولويةً الآن.
وبناءً على ذلك، وافق المشاركون في أول إجراء جاد للاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2016 على النظر في استراتيجيات لإنشاء مركز تخطيط تشغيلي استراتيجي، لتشكيل الجيش الأوروبي المشترك. ثم في نوفمبر 2017، وقع وزراء خارجية الدول الخمس والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (ماعدا الدنمارك وبريطانيا ومالطا) على اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم(PESCO) والتي كان موضوعها التعاون الدائم والهيكلي بشأن الشؤون الدفاعية، بهدف إنتاج المعدات العسكرية الجديدة، تطوير القدرات الدفاعية المشتركة والاستثمار في المشاريع المشتركة، وتحسين التعاون وصنع القرار في المجال الدفاعي، وكان الغرض من إعلان (PESCO) هو تقديم نوعية مختلفة عن التصريحات التي أدلى بها الأعضاء الأوروبيون في السنوات الأخيرة لزيادة القدرة الدفاعية المشتركة، وأيضاً واحدة من أهم القضايا التي أثيرت في اجتماع وزراء الدفاع والشؤون الخارجية لبلدان ARP في مارس 2018، كانت الموافقة على إنشاء مركز قيادة للعمليات العسكرية الأجنبية، يُعرف باسم “القدرة على العمل والتخطيط العسكري للاتحاد الأوروبي”(MPCC).
ومع ذلك وعلى الرغم من هذه التأكيدات، مازال هذا السؤال يثار بين التيارات السياسية الداخلية لأوروبا والمراقبين الخارجيين، بأنه هل تستطيع الحكومات الأوروبية أن تقف بمفردها في مواجهة التهديدات والتحديات الأمنية؟.
في هذا المجال، هناك العديد من العقبات التي تواجه الحكومات الأوروبية لتحقيق الاستقلال الدفاعي، والضعف العسكري الأوروبي هو التحدي الأول، ففي حين أن العديد من الحكومات مثل الصين وروسيا وعلى مدى العقود الماضية، تمكنت من زيادة قدراتها العسكرية بشكل كبير من خلال الاستثمارات، ولكن تخلّفت أوروبا خلال هذه الفترة في المنافسة، وأحد العوامل الرئيسية لذلك كانت سياسات التقشف خلال الأزمة المالية عام 2008.
من بعد آخر، إن الردع باعتباره أحد الأهداف الرئيسية لتنمية القوة العسكرية، لا يعمل فقط للتهديد باستخدام القوة، بل أيضاً لتحييد فرص المنافس لاستغلال ثغرات المجتمعات مثل الاعتماد غير المتماثل (مثل الطاقة أو المواد الخام)، وفي هذا الصدد، يتمثل أحد التحديات التي تواجه أوروبا في استيراد جزء كبير من المواد الخام في صناعة الأسلحة، فضلاً عن الاعتماد الخارجي على إمدادات الطاقة.
كذلك يجب اعتبار المعارضة الأمريكية، من بين التحديات الأخرى التي تواجه أوروبا للحصول على الاستقلال، فمن وجهة نظر واشنطن من المرجح أن تؤدي الإجراءات الأوروبية إلى إنشاء هياكل مماثلة لتلك الموجودة في حلف الناتو، وتجذب الأموال التي يجب أن تخصَّص للحلف، وتستخدم أكثر لدعم صناعة الدفاع الأوروبية على حساب صناعة الدفاع الأمريكية، هذا في حين أن ترامب قد طالب بزيادة الميزانية العسكرية للحكومات الأوروبية بمقدار 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، معتبراً التمويل الفوري للميزانية هو الشرط الأساسي لبقاء واشنطن في حلف الناتو.
ولكن على الرغم من هذه التحديات، يمكن القول إن قدرة أوروبا على الاستقلال العسكري والأمني ليست محدودةً على الإطلاق، إذ يعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أهم المراكز الصناعية والاقتصادية في العالم، والذي يمكن أن يساعدهم على تفعيل خطط تطوير القدرات العسكرية سريعاً.
الحكومات الأوروبية في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى القدرة على بناء المعدات العسكرية التقليدية، تمتلك القدرة أيضاً على صنع مجموعة متنوعة من الأسلحة الاستراتيجية العسكرية، مثل طائرات الحرب المتقدمة، صناعة الصواريخ الباليستية، القنابل النووية، الغواصات النووية المتقدمة، حاملات الطائرات وما إلى ذلك، من ناحية أخرى، إن أكثر من عقدين من تجربة التقارب الإقليمي وتنمية القدرات المؤسسية الإقليمية في مختلف مجالات السياسة والاقتصاد والشؤون الخارجية والأمن و …، يمكن أن تساعد هذه المجموعة على تفعيل الاستقلال العسكري والأمني في أقرب وقت ممكن، وينبغي أيضاً الإشارة إلى أن تهديدات ترامب بالانسحاب من الناتو، لن تجد فرصةً للتحقيق، وذلك بسبب حاجة أمريكا الأكثر للحفاظ على هذه الاتفاقية الأمنية الجماعية، والدور الذي لعبته في الماضي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية على مدى عقود.
من زاوية أخرى، فإن النظر في حقيقة أن جزءاً من التحديات الأمنية الحالية في أوروبا، هو نتيجة لسياسات البيت الأبيض العدوانية في أجزاء أخرى من العالم، مثل الغزو العسكري لغرب آسيا وشمال إفريقيا (السبب الرئيسي لأزمة المهاجرين)، نشر أسلحتها النووية بالقرب من الحدود الروسية، وكذلك السعي إلى توسيع الفجوة في الاتحاد من خلال تعزيز الجناح اليميني (مثل دعم البريكزيت)، سيكون بمثابة حافز للحكومات الأوروبية للتحرك نحو تخفيض الاعتماد العسكري على أمريكا.

قد يعجبك ايضا