سعاد الشامي
حكايةُ المساء… ما إن تنتهي الشمسُ من لملمة أشعتها ؛حتى يحمرّ شفقها في ساعةِ الغروبِ ، معلناً ساعة رحيلها ؛ فتتأهب الأرض لارتداءِ ثوب السواد ، ويستعدُ صدرُ السماء لاحتواء القمر ؛ ليستعين به على عتمة مساء وبإطلالته على وحشة الظلام ، الذي يسارع يوميا إلى فتح صفحةٍ جديدة من مساراتِ الحنينِ اللامتناهية ، مع أم المجاهد الصابرة… وهي تحفرُ أوجاعها سراًّ في حوائط الليلِ، وتلملمُ عاطفتها المتناثرةَ على أرصفةِ الغيابِ ، وتذيبُ شمعةُ قلبها لتنير بها مساءاتِ الآخرين ، تتالمُ بصمت ؛ ليفوز الآخرون بنعمة الأمان والسلام .
يا لها من أم !.. لطالما كانت تنتظرُ حلولَ المساء بكل شغف ؛ فهو من يجمعها بعد ساعات مقيلِ آو جلسات مذاكرة مع ابنها، المساء الذي تنعم فيه بأوقاتٍ طويلة تحت سقفِ حنانها وحنينها وبرهِ وطاعته.
حين يدنو المساءُ وما إن تسمعُ طرقاتٍ متتالية على الباب حتى يتجلى لها أن الطارق ابنها، فتهرعُ لتؤثثَ على ذراعيها ملاذا له ولسانها ينادي ” حياااااا بفلذة كبدي” …
كانت تعدُّ عدتها مسبقاً لإطعامه وسرعان ما تلبي نداء ابنها وهو يناديها :
أمي أنا جائع أين العشاء؟؟ فما يكادُ ينتهي صدى صوته إلا وقد قدمتهُ إليه.. ولكنها هذا المساء ما أن تقعد على مائدةِ العشاء ؛حتى تظل تبحثُ في وجوهِ الحاضرين عن ابنها الغائبِ والتناهيدُ تحرقُ أضلاعها ولسان حالها يقول:
ياتُرى هل تعشى؟ أم لا؟
وهل هو جائعٌ أم شبعان الآن؟؟
تستمر ساعاتُ المساء وبين الأم وابنها مسافاتُ حنين تمتدُ من الوريد إلى الوريد ، ولكن ها هو قلبُها يشيرُ إلى تمام الشوق حسب التوقيتِ المحلي لنشرة المسيرة فكل تلك الأحداث العظيمة التي يعرضها الإعلام الحربي توقدُ في قلبها مشاعرَ ثائرة.
فتتحالفُ فيها سطوةُ الحنين ،مع أيقونةُ الفخر ، وتمتزجُ دموعُ الشوقِ بدموعِ الفرح ، وهي تشاهدُ ملاحم أسطورية ؛فابنُها الذي كان يشاركُها مشاهدتها أمسى أحدَ صناعها بينما تتجاذبُ الأوجاعُ والحسراتُ عاطفتها المغلوبة على أمرها في حضرةِ تلك الجرائم البشعة والتي أوجبت عليها التضحيةَ وأوجبت على ابنها النفيرَ إلى محراب الدفاعِ المقدس.
وبما أن النومَ آخرُ محطاتِ المساءِ، وصفةٌ ملازمةٌ له فلا شيء من شأنهِ أن يجلبَ للأم شعور السعادةِ كتلك اللحظاتِ التي تمدُّ يديها لتحملَ البطانيةَ، وتلقي بها على جسد ابنها الذي يلتحفها؛ ليقي نفسهُ البردَ ثم تقبِّلهُ لينامَ ، ولكن ما أصعبها تلك اللحظات التي تحاولُ النومَ فيها ، وكلما حاولت أن تغمض عينيها داهمها تفكيرها بفلذةِ كبدها وخيالها مازال يجوبُ رؤوسَ التبابِ وشواطئَ السواحل وفيافي الصحاري ؛يتفقد حاله متسائلة هل نام ولدي؟ وإن أغمض عينيه ماذا غير الأرضِ يفترشها و غطاؤه السماء ؟!
ولكن الأصعب من هذا كله أنه ذات مساء حلقت طائرات الحقد والإجرام ، وبسطت أجنحتها الشريرةَ على سماء بلادنا تترقب بنا العناء والشقاء والفناء ؛ فكان أول أهدافها منزلا تقطنهُ أمٌ وأبناؤها لتزهقَ أرواحهم البريئة دون وجه حق! عندها هان كل شيء على القلبِ وصار سهلا ومقبولا لدى العقل عندما تذكرت قول اللَّهِ سبحانه: [قَاتلُوهُمْ يُعَذِّبهُم اللَّهُ بأَيْدِيكُمْ وَيُخْزهمْ وَيَنصركُمَ عَليهمَ وَيَشْفِ صُدُورَ قَومٍ مُؤْمنينَ].
فاستجابت وقالت الأم: أعذرني يا بُني فمجازرُ العدوان المتوحشة تطغي ببشاعتها على مشاعرِ الأمومةِ الحالمة ، وتحرجني أن أقيدك بجانبي في هذا الليل ولا أجعلك تلحقُ بقافلةِ الثائرين .
وقال الابن:
سأذهبُ يا أمي ولقاؤك غايةُ ما أرجوه من عودتي , ورضاءُ اللهِ غايةُ ما أتمناه من دنياي .
وتلا الليلُ آياتَ الصابرين.