عبدالله عامر
عاش أمير المؤمنين الامام علي سلام الله عليه طيلة تاريخ الاسلام ومنذ أن اعتنقه تواقاً إلى أن يفوز بهذا المقام الباذخ، مقام الشهداء بل كان سلام الله عليه يظهر الآسى والأسف حين تمر مواطن كان يتمنى فيها أن تعانقه الشهادة، ولذلك شكا هذه اللوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان النبي يبشره بأن الشهادة ستأتيه وتحل بساحته، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم “كيف بك إذا خضبت هذه من هذا” وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبينه ولحيته فأجابه بطل الإسلام علي بن أبي طالب قائلاً: “يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر بل هو من مواطن الشكر” لأن علياً عليه السلام يحتسب الشهادة فوزاً بمقام عظيم ووسام فخيم عند ملك الأوسمة والنياشين الحقيقية هذا الشهيد العظيم والامام الرباني والإنسان الكامل لم يكن كأي شهيد، أو أي عالم رباني زاهد عابد أو أي إنسان حر يأبى الضيم ويثور في وجه الطاغوت بل كان سلام الله عليه القدوة في كل ما يتصوره الإنسان من معاني الكمال وخصال الفضل حتى أن معاوية الخصم والعدو اللدود للامام سلام الله عليه أحب من أحد أصحاب الامام الشهيد أن يصفه له بما فيه من خصال العظمة والكمال.
ولقد كانت شهادة الامام علي “ع” وفوزه بما كان ينتظره بفارغ الصبر في معارك الإسلام وشاء الله أن تأتيه الشهادة وهو في مكان من أطهر الأماكن وهو مسجده عليه السلام في الكوفة، وفي أفضل وقت عند الفجر، وفي أفضل الشهور شهر رمضان، وفي أفضل ليالي شهر رمضان في ليلة من ليالي القدر، ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، فهو سلام الله عليه الرجل الذي امتلأ قلبه إيماناً، أراد الله أن يتم له نوره بأن تكون شهادته على أبلغ وأفضل حال, يرفعه الله بها ويُعلي مقامه حتى يستحق أعظم مقام للشهداء؛ ولأنه سلام الله عليه قدوتهم فقد استحق من الله كرامة ما بلغها شهيد, فقد توج الله جهاده في سبيل دين الله وإقامة شرع الله بشهادة على أبلغ مقام وأفضل حال على صيام ووضوء وخشوع وتذلل لله في صلاته في بيت من بيوت الله .
فشهادة الإمام علي سلام الله عليه كانت وستظل نورا يهتدي به عشاق الشهادة إلى يوم القيامة, وهنا لا بد أن نلفت عناية من اختطوا نهج المجاهدين في سبيل الله ورضوا بأن يكون الإمام علي بن أبي طالب قدوتهم وأسوتهم بأن عليهم وهم يخوضون غمار الحياة الجهادية بأن يكون نصب أعينهم هذا الإمام العظيم بما حمله من دين صادق وعلم نافع, وزهد وورع لا يشوبه شائبة رياء, وقوة وصلابة وشجاعة لا يعتريها بطش أو ظلم أو عدوان, ورحمة وشفقة بالرعية لا يطمع بسببها أهل النفاق في نفوذ نفاقهم ورواجه.
فهكذا يجب أن يكون من يطلب الشهادة في ميدان الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله ورفع راية الحق وتنكيس أعلام الباطل, هكذا يجب أن يكون من عشق الحرية الإيمانية ورفض الخضوع للاستكبار والطاغوت .
شهيد المحراب علي بن أبي طالب سلام الله عليه كان قدوة بحق للشهداء العظماء, فقد جمع من خصال الإيمان والإباء والشجاعة والسماحة والصفح والعفو ما لم يتصف به غيره من الشجعان, فعادة البشر أن من كان شجاعا ربما دفعته شجاعته إلى البطش والفتك ولو لمرات معدودة حين تعرُض له عوارض الغضب؛ لكن الامام علي سلام الله عليه بخلاف ذلك تماما, وفي العادة أيضا بأن الشجعان ربما كان بهم من قساوة القلب ما يدعوهم إلى الجفاء والغلظة إلا أن الامام علي سلام الله عليه بخلاف ذلك كله وكان حقا كما قال فيه الشاعر:
هو البكاء في المحراب ليلا *** هو الضحاك إن آن الضراب
ولأنه سلام الله عليه حاز القمة في خصال الكمال أحب حتى أعدى أعدائه سماع وصف صفات الكمال فيه فهذا معاوية حين دخل ضرار بن حمزة الصدائي، أحد أصحاب الإمام علي سلام الله عليه طلب منه معاوية أن يُسمعه بعضَ أوصاف الامام سلام الله عليه, فقال ضرار في جوابه على معاوية: {فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ} وَيَقُولُ : {يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَبِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَطُولِ الطَّرِيقِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ}.
ورغم أنه عليه سلام الله كان قد بلغ القمة في الشجاعة وقوة القلب إلا أن به من اللطافة وخفة النفس ما جعل أعداءه يصمونه ويعيبونه بأنه صاحب دعابة, حتى اشتكى عليه السلام ذلك في خطبة له من الخطب التي ضمها نهج البلاغة فقال عليه السلام: {عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ ـ يقصد عمرو بن العاص ـ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً, وَأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ, لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَنَطَقَ آثِماً, أَمَا وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ, إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ, وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ, وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَيَخُونُ الْعَهْدَ} .
أما سماحته سلام الله مع اعدائه فأمر ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار؛ بل إن الكلمات التي قالها سلام الله عليه في حق قاتله ابن ملجم بعد ضربته اللعينة قال سلام الله عليه لولده الحسن سلام الله عليهما : (وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَمُحَمَّدٌ ( صلى الله عليه وآله ) فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَخَلَاكُمْ ذَمٌّ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَغَداً مُفَارِقُكُمْ إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ وَلَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ وَمَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ وَطَالِبٍ وَجَدَ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).
وقد ابتُلي الإمام علي سلام الله عليه عند توليه لزمام أمر الأمة الإسلامية بجماعات من داخل المجتمع المسلم من المنافقين والذين فهموا الدين بصورة محرَّفة, والذين عُرفوا بالناكثين والقاسطين والمارقين, فابتلي الإمام سلام الله عليه بحربهم حين اختار هؤلاء ونصبوا الحرب لأمير المؤمنين, ولم يرضوا بخطة غير الحرب لله ولرسوله ولأمير المؤمنين .
فحري بأهل الإيمان من أهل اليمن وقد ابتلوا بما ابتلي به قدوتهم أمير المؤمنين, من أسلم أجدادهم وأسلافهم على يديه سلام الله عليه, ابتلوا بعدوان ظالم غاشم تجمع فيه الأحلاف من الكفرة الأمريكان والصهاينة والمنافقين من أعراب الداخل والخارج حري بهم أن يجاهدوا في سبيل الله هؤلاء الأوباش كما جاهدهم قدوتهم سلام الله عليه .
ولقد فعل أخيار أهل اليمن ذلك فها هم اليوم شباب اليمن وأبطاله الذين سلكوا درب الإمام علي سلام الله عليه يجاهدون في الله حق جهاده, وهم يواجهون للعام الثالث على التوالي هذا العدوان الظالم المتجبر , يواجهون هذا العدوان بشجاعة الإمام علي وبطولات الإمام علي وأخلاق الإمام علي وسماحة الإمام علي .
ألم ير العالم بأسره كيف يواجه هؤلاء الأبطال في مختلف جبهات العز والكرامة آلات العدو وأحدث أسلحته الفتاكة بما استطاعوا تحصيله من السلاح المتواضع إلا أنه ببأس الله وشجاعة هؤلاء الأبطال تحولت حتى الولاعة إلى سلاح فتاك يحرق به المجاهدون مدرعات وآليات العدو في مشاهد لولا توثيقها بالصوت والصورة لكان أقل شيء يقال عنها انها خرافية .
ألم ير العالم أخلاق الإمام علي في هؤلاء الأبطال حين يقع الأعداء والخونة والمنافقون في قبضتهم أسرى أو جرحى كيف يعاملونهم ويحسنون أسرهم كما قال سلام الله عليه في وصيته بقاتله قائلا : (إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ).
ألم تر أيها العالم تلك المشاهد الإيمانية العلوية الأخلاقية لأبطال اليمن حين يفر أعداؤهم في الجبهات فيتركونهم وهم قادرون على الفتك بهم قائلين لهم باللهجة الدارجة: ( سعليكم سعليكم والله ما نعسكم ).
أليست هذه هي أخلاق الإمام علي سلام الله عليه في الحرب حين ترك خصمه وهو قادر على قتله عندما كشف عن سوءته.
ألا يكف هذا العالم الصامت المتخاذل دروس من بطولات اليمنيين وأخلاق اليمنيين فيعملون على إيقاف هذا العدوان الظالم المجرم, ألا يستحون ويخجلون حين يشاهدون حتى طفل اليمن وهو يقول : ( والله ما نخاف طائراتكم ولا صواريخكم ولا نخاف إلا من الله الواحد القهار).
متى يصحو هذا العالم النائم ويقول للمستكبرين المجرمين كفاكم عبثا بأرواح الأبرياء .
وبشرى بشرى للشهداء الدرجات الرفيعة, فعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجاتٍ.. فأولى درجةٍ من درجاته: أن يرى منزله من الجنة قبل خروج نفسه ليهون عليه ما به.
والثانية: أن تبرز له زوجته من حور الجنة فتقول له: ابشر يا ولي الله ما عند الله خيرٌ لك مما عند أهلك.
والثالثة: إذا خرجت نفسه جاءه خدمه من الجنة فولوا غسله وكفنوه وطيبوه من طيب الجنة.
والرابعة: أنه لا يهون على مسلمٍ خروج نفسه مثل ما يهون على الشهيد.
والخامسة: إنه يبعث يوم القيامة وجرحه يشخب مسكاً فيُعرف الشهداء برائحتهم يوم القيامة.
والسادسة: إنه ليس أحدٌ أقرب منزلاً من عرش الرحمن من الشهيد.
والسابعة: إن لهم في كل جمعةٍ زَورة فيحيون تحية الكرامة ويُتحفون بتحف الجنة فيقال: هؤلاء زوار الله)).
فسلام على قدوة الشهداء وكعبة الأولياء ومحراب الأصفياء, وسلام الله على الشهداء من بعده من اقتفوا أثره واختطوا نهجه وسلكوا طريقه فأريقت دماؤهم الزكية في سبيل الله كما أريق دمه سلام الله عليه, وسلام الله عليهم جميعا حتى يلقوا الله مزملين بثيابهم ودمائهم العطرة.
ونسأل الله أن يرفع عن اليمن الميمون عدوان المعتدين وظلم الظالمين وجبروت المتجبرين وأن يرد كيدهم في نحورهم وأن يكف عن أهل اليمن شرهم وضرهم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.