محمد أحمد المؤيد
من المسلم به أن الله عندما يحب عبده فهو ” يحاجي عليه في جميع شؤون حياته ” , وكلما غدا الإنسان في درب الهداية ” مهتدياً وهاديًاً ” كلما محصه الله وامتحنه واختبره , فلا يكاد يطرق باباً إلا وجد فيه خيراً عظيماً , وما لم يجد فيه خيراً -وخاصة ومازال هذا الشيء غير محرم أو يؤدي إلى شروع في حرام – فتجد المانع هو مسألة تمحيص وابتلاء , لأن الله هو الحكيم الخبير بعباده وخلقه , حتى الأنبياء وهبهم الله الآيات والبراهين والحجج والتأييد والتمكين , ولكنه سبحانه دائما ما كان بالمقابل يمحصهم ويعلمهم ويوجههم , فموسى عليه السلام محصه الله قبل أن يؤيده بالآيات والبراهين , وذلك عندما قتل شخصاً في المدينة وفر هارباً إلى البدو وتزوج أحد الفتاتين ورعى الأغنام ثمان حجج , حتى وفقه الله في نهاية الأمر بمعية أخيه هارون عليهما السلام بالآيات والبراهين القوية ( في تسع آيات منها العصى ) والذهاب إلى فرعون وملئه , ثم جاء بعد ذلك النصر المبين والتمكين من رب العالمين , فهناك الكثير والكثير من العبر والآيات التي لا يسأم الإنسان من ذكرها والتفكر في أحكام الله لها كدروس وعبر ليس لأي فطن الغنى عنها ومعرفتها , ولأن قيمة التمحيص هي من تعلم الإنسان أهمية وقيمة الأشياء التي مكنه الله فيها , فلو لم يع الإنسان ما معنى الشيء وأهميته وقيمته فسيتخذه هزؤا , غير أن لكل شيء قيمة وثمناً , وأحيانا لا يعلم بهذه القيمة والثمن إلا الله , ولذا فهو العالم والمتحكم بجميع شؤون حياتنا وله الحمد والثناء الحسن.
ومن هذا المنطق , حري بالإنسان الذي هو بشر ضعيف ولا يعي خفايا ومقاصد الأمور إلا بإلهام وتعليم من الله وحده , أن يعي أن الله سبحانه لم يخلق الأشياء هباء منثورا , حتى الشر “ونعوذ بالله من كل شر ومن كل سوء ومكروه” , فقيمته وأهميته تكمن في معرفة الإنسان بأهمية الخير وفضل الله علينا بالخير , فلولا الخوف لما عرفنا قيمة الأمن والأمان , ولولا المرض لما عرفنا قيمة العافية وقيمتها التي لا تقدر بثمن , وانعدام الشيء هو من يقدر لنا قيمة وجود وتوفر الشيء نفسه , فمع انعدام الشيء تظهر الحاجة الماسة أو القصوى للحصول عليه , فعندما نجد الشيء بعد جهد جهيد من البحث عليه أو اتخاذ الحيل والتدابير التي من شأنها أن تخول لنا الحصول على الشيء , عند هذه اللحظة تماما تبدو لنا معرفة أهمية وقيمة الشيء , فتظهر معها حينئذ الحرص والتحفظ الشديدين على الشيء بعد الحصول عليه أو التفنن في الكيفية التي بها يكون الاقتناء والتملك له .
فكثيرة هي الأشياء التي تجعلنا نعي معاني وقيمة الحصول عليها , وذلك عبر النسبة لأهميتها في الحياة أو من عدمها وعدم أهميتها , فكلما كان الشيء ذا أهمية قصوى في الحياة , كلما انعكس ذلك تماما على قيمته بشكل متفاوت إما ارتفاعاً أو انخفاضاً , كالذهب والماس والمعادن ذات القيمة , وهكذا يطلق عليها ” ذات القيمة ” , فلماذا صارت ذات قيمة ؟! لأن شحتها في باطن الأرض وصعوبة الحصول عليها جعل منها ذات قيمة باهظة ومهمة , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى , كونها معادن ذا متانة وصلابة ورعونة وجمال لا تتغير مع الزمن مهما تعرضت له من تعاري الزمن وتقلباته , فهي تبقى كما هي صلبة ومتينة ومتماسكة وذو نظارة وبهاء , كما هو حاصل مع القطع الأثرية والتي هي من الذهب الخالص والتي لا تتغير مع الزمن , فعندئذ صار الناس يتهافتون عليها كي يستفيدون منها كحلي وزينة , وكذا للادخار وتجميد وتوفير المال في شيء ” ذي قيمة ” , وليس كما البلاستيك وغيرها من المعادن والصلب التي هي متوفرة بكثرة وبأبخس وأرخص الأثمان , ولذا فقيمتها تتفاوت في النسبة بحسب أهميتها وضرورتها في الحياة أو للعيش , كما هي النسبة لأهمية العيش أو الخبز الأحمر طبعاً , التي تنعكس مباشرة على قيمته , فأهميته تكمن في أنه قد يستغني الإنسان عن أي مصدر من مصادر الغذاء ” كالفاكهة واللحوم والسمن والجبن والحليب وغيرها من المصادر الغذائية الهامة ” , ولكنه لا يستغني عن الخبز الأحمر , وذلك نظرا لما له من قيمة وأهمية غذائية لا تتوفر إلا فيه , وكذا حاجة الجسم له في بناء الألياف العصبية والحسية والدماغية , والتي تتحكم مباشرة في بناء وتدعيم الجسم بكل ما يحتاجه من طاقة وحيوية ونشاط وتعويض الفاقد أو تدعيم الناقص كالنمو وخاصة مع الرياضة والأعمال الشاقة , ولذا نرى أن أغلب الزراعات في العالم هي زراعة القمح , فهناك تريليونات الفدانات من التربة والأرض الخصبة والغنية بزراعة القمح في شتى أصقاع المعمورة , لا شيء وإنما لقيمتها ولأهميتها القصوى في الحياة , فالغذاء الصحي لجسم الإنسان عادة لا يخلو من الخبز الأحمر , وهنا تكمن قيمة الحبوب وخاصة ” البر / القمح ” عن غيرها من المصادر الغذائية الأخرى.
ولأن عمارة الأرض والاستخلاف والتمكين فيها بما يرضي الله هو أهم شيء على الأرض , فالله لا يمكن عباده في هذا الأمر بالذات إلا بعد تمحيص دقيق في من يستحق هذا الأمر من عباده , وبشكل ليس له مثيل في الأشياء الأخرى , وسهولة الحصول عليها , مقابل الصعوبة التي تكون بمثابة التمحيص للمؤمنين المخلصين , والتمحيص هو من أهم الجوانب التي تربي الإنسان على كيفية تقدير قيمة الأشياء وأهميتها , فالنصر لن يكون إلا بعد تمحيص واختبار في من الصابر والمجاهد والحامد والشاكر , حتى يعي الناس معنى “نصر وتمكين في الأرض ” , فلو لم يذاكر الشخص لما نجح ولما عرف أهمية النجاح , ولو لم يداوم الموظف في المؤسسة لما عرف قيمة المرتب وأهمية أن يعول أسرته ويخدم وطنه…وهكذا.
..ولله عاقبة الأمور..
Mohammed almoaid5 @ gmail.com