التاريخ يصنع وعينا (3)
ذرائع الاستعمار
حمود الأهنومي
في خطابه بتاريخ 6 شوال الماضي ذكّر السيد القائد عبدالملك الحوثي شعبَه بأن الغزاة على مر التاريخ طالما اختلقوا الذرائع لتبرير اغتصابهم إرادة الشعوب، واحتلالهم بلدانها، وحريتها، وكرامتها، وأن الغزاة الجدد لا يختلفون عن سابقيهم في شيء، فذرائعهم كثيرة، وادعاءاتهم لا حدود لها، “ولن تعدم حتى الخرقاء علة” كما يقول المثل العربي.
والآن تعالوا إلى الماضي القريب جدا، وإلى بريطانيا الاستعمارية لنرى ما هي الذرائع والمسوغات التي رفَعَتْها لشنِّ عدوانها على اليمن؟
في أحد أيام شهر مارس من عام 1928م الموافق 1347هـ شنت طائرات بريطانيا الاستعمارية عدوانا جويا على عددٍ من المدن اليمنية، ابتداء من قعطبة، وإب، وتعز، ويريم، وذمار، في الوقت الذي كانت تلقي فيه مناشير ورقية على مناطق الضالع وإب وتعز ومختلف مناطق الشافعية، تبشِّرهم أن بريطانيا المسيحية النصرانية قادمة لتحرير الأراضي الشافعية الإسلامية من الحكم الزيدي الإسلامي، وكانت تحرِّض أبناءَ تلك المناطق على التمرُّد والثورة على حكومة صنعاء، وتعِدُهُمْ بإجلاءِ من سَمَّتهم بـ(الزيود) عن مناطقهم، وكانت تعدهم وتمنيهم، (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)
يذكر القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكِّراته، أنه على الرغم من “أن هذه الدعوة لم تلق إجابة” من أبناء المناطق الشافعية، إلا أن الإنجليز المستعمِرين ظلَّوا يعزفون هذا الموال “مدة طويلة جريا على قاعدتهم العتيدة (فرِّق تسد)”.
كانت بريطانيا قبل ذلك احتلت مدينة عدن الاستراتيجية بذريعةٍ هي أسخف من السخافة نفسها، وهي أن مواطنين يمنيين اعتدوا على سفينة بريطانية أثناء رسوها في الميناء، وأرادت معاقبتهم باحتلال المدينة!!.
والحقيقة أنها احتلتها منذ عام 1839هـ لاتخاذها قاعدة انطلاق لحماية مستعمراتها في الهند وجنوب شرق آسيا، فتعرَّضت لهجمات الثوار الأحرار من أبناء الجنوب، فقرَّرت احتلال العمق الاستراتيجي لهذه المدينة، وأنشأت ما سمي بالمحميات التسع في الجنوب العربي، ولما بسطت الحكومة اليمنية في صنعاء عام 1928م على كل الضالع وجحاف وحالمين والشعيب والأجعود، ووصلت طلائع الجيش إلى قرية ملاح بالقرب من لحج، أعلنت بريطانيا حربها على اليمن واليمنيين.
هذا التحرير للأراضي اليمنية استثار بريطانيا، ودفع بأحد أبناء الضالع من الخونة وأبناء السلاطين ليطلب منها الحماية العسكرية، وهنا أنذرت بريطانيا حكومة صنعاء بالخروج من الضالع، بحجة أنه من المحميات التي وهبتها تركيا لبريطانيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ولما رفض الإمام ذلك بكونه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق اندلعت الحرب، وصمد الجيش اليمني على تواضع عدته وعتاده أمام القوة التدميرية الهائلة لبريطانيا العظمى، فضربوا المدن البعيدة، وهدَّدوا بضرب صنعاء، وأطلقوا بموازاتها تلك المناشير المذهبية التحريضية، التي لم تلق رواجا في صفوف الشعب اليمني.
ويروي الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني أن والده القاضي يحيى بن محمد الإرياني وعددا من شعراء اليمن أطلقوا القصائد التي تحث على جهاد بريطانيا، وتفضح دعاواها الخبيثة، ومن ذلك قوله:
يا بريطانيا رويدا رويدا إن بطش الإله كان شديدا
لا تظنوا هدْمَ المدائن يُوهِي عزمَنا أو يُلِينُ بأسا صلودا
ما رضينا للترك معْ قُرْبِهم في الـ ـــدِّينِ منا فكيف نرضى البعيدا
وهمْ في الأنام أشجعُ جيشِ فسلوهم هل صادفونا أسودا
يا بني ديننا نفيرا إلى الحر ب فقد فاز مَنْ يموت شهيدا
قبل أن تصبحوا لذي الكفر يا قو م أسارى أذلة وعبيدا
واعلموا أنكم مع الحق والحـــــ ــــق كفيل بمنحكم تأييدا
ويُخلِّد في قصيدة ثانية ذرائع الإنجليز ومحاولتهم اللعب على الوتر الطائفي والمذهبي، على رغم كفرهم، وعداوتهم المحققة للإسلام، ويبين أن ادعاءاتهم مساعدة الشوافع ضد الزيود محض افتراء، وأن قصفهم المدن اليمنية بحجة استهداف الزيود نوع من الدجل الذي لا يُعَوَّل عليه، وأن ضررهم وظلمهم لأهل الجنوب أمر معلوم ومشاهَد، ولهذا دعا اليمنيين إلى النفير لجهادهم، فيقول:
ألا إن شر الخلق كفرا ودولة أتت نحو حزب الله بغيا تحاربه
يريدون بلْعَ المسلمين وحكمَهم عبيدا لهم فالعيشُ ساءت مشاربه
بريطانيا لم يكفها ما تملّكت وقد ظلمت ظلما وعمت مضائبه
ألا فادفعوا عن دينكم وبلادكم بجدٍّ وعزمٍ لا تلين جوانبه
ولا تهدموا مجدا بناه مشيّدا أوائلُكم طالت سموا مراتبُه
ألا فانظروا في الإنجليز وفعله إذا نشبت في المسلمين مخالبه
وعبرتكم فيمن يجاور أرضكم أذاقهمُ ما لا تطاقُ متاعبه
وقد كان منَّاهم غرورا خديعة فخيَّبهم والكل ضاقت مذاهبه
وقد سمعت أذناي ما قاله لكم بتغريره ذا شافعيٌّ أصاحبه
وما هدفي في الحرب أني أصيبه وليس سوى الزيدي عمدا أحاربه
غرورٌ كما يُعتَادُ من كذباته لتفريقكم حتى تلين مصاعبه
خذوا حِذرَكم من مكره وخداعِه فكم خَدَع الملاق شعبا يشاغبه
أخيرا غادر الاستعمار، وغادرت معه ادعاءاته السخيفة، وتبريراته الواهية، لكن قول الله تعالى لم يغادر وعينا أبدا، حيث قال: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ).
وهكذا يتبين:
-أن الغزاة والمحتلين لم ولن يعدَموا التسويغات الباردة، والتبريرات السخيفة، في كل وقت وزمان، ومع كل غزو لبلد أو احتلال لشعب.
-وأن أكفر الكفار ربما يأتي ليدَّعي أنه أحرص الناس على دين الإسلام، وأنه في سبيل ذلك سيشن عواصفَ القتل والإجرام بحق المتمردين، ويقصد شعوب المسلمين.
-وأن المستعمرين والغزاة على مر التاريخ دائما ينتظرون أحد الخونة ليوفر لهم بعض تلك المبررات الطريفة، والتسويغات السخيفة، فلا تكتمل دائرة الاستعمار إلا بخائنٍ يمثِّل دور الداعي ومسمار جحا، وغازٍ في دور الاستجابة، وتبريراتٍ لا تختلف في مجملها من زمن إلى آخر.
-وأن الورقة المذهبية (شافعي – زيدي) (شيعي – سني) وغيرها ليست ورقة جديدة ابتكرها الغزاة اليوم، بل إنما يسلكون طريقا سنها لهم أسلافهم السابقون، ومضى عليها المستعمرون الأولون.
-وأن شعبنا اليمني البطل، لم تؤثِّر على توجهاته هذه الادعاءات الكاذبة سابقا، ولن تؤثر عليه لاحقا، لأنه من أذكى الشعوب التي تعرف حقائق الأمور، وتستبطن وتستظهر طبيعة الصراع ومراميه وأهدافه.
-ويتبين أن الليلة أشبه ما تكون بالبارحة، فالخائن هو الخائن، والتبرير هو التبرير، والعدو هو العدو، والمستعمر هو المستعمر، لكن اليمني هو اليمني أيضا .. منذ الأزل .. صمودا واستبسالا ونصرا.