الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي” 11 “

عبدالجبار الحاج
عشية ثورة اليمن في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر عام 62 كان الأمير فيصل في تلك الأيام في زيارة لأمريكا في عهد جون كندي ..
وحينها كان يحمل ملف الخارجية السعودية إضافة إلى ولاية العهد وكان فيصل قد تدرب على مهمات السياسية الخارجية صبيا في الثالثة عشر من عمره .
ليلتها كان فيصل مدعو للعشاء على مائدة الرئيس الأمريكي جون كندي وقبيل العشاء حمل إليه موظف السفارة السعودية برقية تقول : انقلاب عسكري في اليمن وقتل الإمام الجديد البدر بن أحمد وبينما هو يقرأها كان إلى جانبه سناتور أمريكي .. رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس فأشار إلى موظف سفارته في أمريكا بمتابعة الموقف وفي اليوم الثاني جاءته برقية عن ما استجد في وضع اليمن تقول : اعتراف السوفييت بثورة اليمن وبالنظام الجمهوري الجديد في صنعاء وكان أيضاً في الليلة الثانية في جلسة عشاء مع الرئيس كندي وسأل كندي فيصل عن رأيه فيما حدث في اليمن فرد عليه فيصل : لا تتعجلون الاعتراف بالسلال؛ لأن إزاحة الإمام لا تعبر عن رأي الشعب اليمني.
وعاد فيصل إلى بلاده وأمامه أمران مترابطان ما حدث في اليمن ومشكلته في ارتقاء رأس الحكم في ظل وجود أخيه سعود ملكا وعائقا في طموحه فكانت ثورة اليمن أول الطريق لاستلام السلطة الفعلية رئيسا للوزراء في نوفمبر 62 على طريقه إلى الإطاحة بسعود وإعفائه في أكتوبر 64 وحتى نودي عليه رسميا بالملك في 2 نوفمبر 62. وهكذا كانت حرب سعود في اليمن قد اقترنت بسلطة فيصل الفعلية ثم صيرورته الملك في سلسلة أمراء آل سعود .
ليس من محض الصدف أبداً اقتران عمليات نقل السلطة في السعودية بالحروب على اليمن ففي مطلع نوفمبر عام 62 بدأت عملية نقل السلطة الفعلية إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز الذي أصبح رئيساً للوزراء وقد أسقط ستة وزراء من وزارته كانوا من أصحاب الرأي الذي دعا إلى الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن ..
واقترنت استمرارية الحرب على اليمن بتأمين نقل السلطة ليتوج فيصل ملكا وصاحب القرار الملكي المطلق وذلك في عام 64 وذلك في انقلاب أطاح بأخيه الأكبر سعود الذي ركبت له تهمة البذخ في المال ..وغريب جداً أن يكون البذخ تهمة داخل أسرة تمارس السفه في المال وليس البذخ فحسب .. على أن المسألة في الإطاحة والتثبيت مقترنة ومتعلقة بحرب اليمن وفيصل كان يعد الأقرب للانجليز والأمريكان .. كان كل نقل للسلطة لدى آل سعود لا يقوم إلا بالحرب على اليمن وهكذا هي اليوم في نقل السلطة لمحمد بن سلمان هي الأخرى لم تبدأ إلا مع أول غارة حربية شنها طيران التحالف العدواني بقيادة السعودية صبيحة السادس والعشرين من مارس 2015 ..
كما اقترنت سياسة سعود تجاه اليمن بالعداء فقد اقترنت بالتواطؤ والتآمر ضد القضايا والحقوق العربية ومنها فلسطين .
ففي عام 47 سافر فيصل إلى سان فرانسيسكو لتمثيل بلاده في دورة الأمم المتحدة وكانت الدورة مخصصة لبحث مشكلة الفلسطينية بعد انسحاب بريطانيا طبقا لوعد بلفور أعطى من لايملك وعدا لمن لا يستحق . وكان أن يتقرر في الدورة هل تكون فلسطين عربية أم تقسم بين اليهود والعرب ..
اقر ممثلوا الدول العربية انتداب فيصل ناطقا رسميا بينهم .وكانت وجهة النظر العربية تتلخص في رفض التقسيم .واجتمع فيصل بممثل الخارجية الأمريكية ..أسفرت مشاورات فيصل إلى ما أعلنه هو بنفسه لمنتدبيه العرب عن إقناعه أمريكا برفض ومعارضة قرار التقسيم وإذا بالقرار يصدر وبعد دقائق تعلن أمريكا اعترافها بدولة إسرائيل .
لم يكن من فيصل سوى أن التزم الصمت وقال الكاتب الفرنسي بنوا ميشان الذي امتدح فيصل في كتابه ( فيصل من نشأته حتى اغتياله ) إلا أن فيصل سكت وصبر …..
هذا هو فيصل في اليمن وفلسطين ..ونعود إلى الوضع في اليمن في لحظات انفجاره شماله وجنوبه ؛
في الوقت الذي كانت تجري فيه الأحداث مجراها الصدامي والدامي شمالا كانت الأمور تسير على المنوال ذاته جنوبا في عدن المستعمرة فقد أصبحت لعدن بحسب السير شارلس في كتابه: ( الرؤية من التواهي ) ؛( أن ذلك يعود لثلاثة عوامل أولهما يتعلق بالاستراتيحية الدولية فقد صبحت لعدن أهمية استراتيجية ليس لبريطانيا فحسب بل للمعسكر الغربي بأسره وثانيهما يتعلق باستراتيجية البترول فعدن أصبحت هي التي تحمي آبار البترول في الخليج وثالثهما يتعلق بالإستراتيجية المحلية؛ لأن القاعدة ستحمي حلفاء بريطانيا المحليين ).
فقد ازدادت مقاومة الشعب اليمني جنوبا ضد الاتحاد وأصبح الخطر على اتحاد الجنوب العربي من داخل المستعمرة ذاتها المزمع ضمها للاتحاد أكثر رفضا من أي مكان آخر من سلطنات ومشيخات الاتحاد وكانت سياسة بريطانيا تقضي بضم عدن للاتحاد ..
فقد دار نشاط المعارضة في عدن حول إسقاط المؤسسات الدستورية المزيفة التي كان بواسطتها يتم تمرير المشاريع البريطانية ومنع قيام الاتحاد فكان الزحف الجماهيري قبل يوم من ثورة سبتمبر على المجلس التشريعي وسقوط الشهداء والجرحى أمام أبوابه برصاص جنود الانجليز .. وضمت عدن قهراً وبتعبير دافيد هولدن (تم زواج عدن بالصميل) .
في الضفة الأخرى المناهضة للتواجد البريطاني كان هدف حركة التحرر الوطني العربي حينئذٍ هو تصفية القواعد البريطانية ولاسيما تلك القاعدة الكبرى المركزية لمنطقة الشرق الأوسط في عدن.
أما في الجزء الشمالي فقد تطورت الأحداث في اليمن المتوكلية تطورا دراماتيكيا بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد في الحديدة في مارس 61 وفيها تم القبض على رجال الجيش ممن اشتبه فيهم بعد هذه المحاولة ؛عبدالله السلال مدير ميناء الحديدة ومحمد الرعيني مدير المطار وحسين المقدمي مدير المستشفى .
جاهر الإمام في عدائيته لعبدالناصر وخاصة ما يتعلق منها بإجراءات التأميم التي بدأت من قرار تأميم السويس إلى تأميم الشركات الكبرى وقانون الإصلاح الزراعي وكان عبد الناصر بسبب هذه الإجراءات قد اكتسب حب الشعوب العربية واحتل قلوب الملايين وفي اليمن كانت تتسع وتتعمق يوما بعد يوم مكانة الزعيم ناصر فكان من الإمام أن شن هجوما عنيفا ضد التأميم وموقف موجه ضد الناصر وهو موقف يثير حفيظة اليمنيين أنفسهم الذي بات ناصر ضميرهم وخيارهم نحو التحرر والعدالة .. ففي ديسمبر من نفس العام هاجم الإمام بأرجوزة شعرية اشتراكية عبدالناصر حليفه في اتحاد الدول العربية وفيها دعا إلى وحدة مبنية على شريعة الإسلام وحده كما يقول :
ليس بها شائبة من البدع .. تجيز ما الإسلام عنه قد منع
من اخذ ماللناس من أموال ..
وما تكسبوا من الحلال .
بحجة التأميم والمعادلة ..
بين ذوي المال ومن لا مال له .
فأخذ مال الناس بالإرغام ..
جريمة في شرعة الإسلام.
بسبب مجاهرة الإمام أحمد لناصر وتسفيه خياراته وانجازاته والتي لم تكن القصيدة أعلاه إلا إحدى تعبيرات مواقف الإمام من سياسات ناصر ..
أعلن عبدالناصر إلغاء اتحاد الدول العربية ولم يتوان من حينها في تقديم المساعدة على إسقاط نظام الإمام ..
كاد الإمام في سنته الأخيرة أن يفقد السيطرة على كل شيء فقد زادت المصادمات بين قواته وبين الطلاب الذين سيروا المظاهرات منذ أغسطس في صنعاء وتعز والحديدة وقيام بوليس الإمام بإطلاق النار على الطلاب ..
في صنعاء كانت المنظمة السرية للضباط الأحرار والتي تأسست في ديسمبر 61 بقيادة علي عبد المغني تتحضر وتتحين الفرصة المواتية للإجهاز على الإمام والإطاحة بنظامه ..
توفي الإمام أحمد في منتصف سبتمبر 62 وعقب وفاته بأيام تولى البدر كرسي الإمامة خلفا لأبيه ..
يؤكد دانا سميث في كتابه؛ ( اليمن الحرب المجهولة ) وقد استقى معلوماته من الجانبين :
فان سفير مصر بصنعاء عبدالواحد كان هو الممسك بخيوط مجموعة الثورة ..وقد حذر البدر من وقوع الانقلاب قبل وقوعه بـ 24 ساعة من وقوعه فعلا ..
وكان البدر قد سبق أن حذر تلغرافيا من قبل سفيره بلندن أحمد محمد الشامي .وعندما وصل التلغراف إلى سكرتيره الخاص عبدالله الضبي تظاهر انه لم يستطع فك شفرته وقد أصبح الضبي فيما بعد وزيرا للداخلية في أول عهد للجمهورية
أما التحذير الثاني فقد جاءه من محمد عبد الله الشامي محافظ البيضاء والسياسي الداهية العجوز .( لم يكن قريبا لأحمد الشامي ) فقد أخبر البدر انه قد استلم تقارير تقول أن بعض الضباط يعدون لقتله ..
ويظهر أن البدر لم يرد أن يبدأ حكمه بإراقة الدماء وخاصة انه قد رأى في سلوك أبيه الدامي مع كل معارض من قريب أو بعيد هو ما كالب عليه الخصوم من قريب ومن بعيد ..
ومن تحذير القائم بالأعمال في سفارة مصر عبدالواحد للبدر من أن السلال و15 ضابطا بينهم علي عبد المغني من تخمينات عدة وفي التخمين لدوافع السفير فان ما يقف وراء هذا التصرف هو التغطية على دور مصر في حالة الفشل ودفع التنظيم على القيام بالعمل حالا ..
وقد قام عبدالمغني بالثورة بعد أن ذهب إليه عبدالواحد مباشرة بعد مقابلته للبدر مباشرة كما رأينا قبلا وأخبره بأن البدر قد اكتشف بطريقة من الطرق خطة الانقلاب وبالتالي قام عبد المغني بالعمل فورا قبل أن يقبض عليه وعلى زملائه .
وتعود العلاقة الخاصة بين البدر والسلال إلى عام 56 بعد خروجه من سجن حجه .. والبدر هو من سعي لتعيين السلال مديرا لميناء الحديدة لاحقا بعد أن سرحه الإمام من الوظيفة فقام البدر وعينه رئيسا لحرسه الخاص ثم رئيسا للمدرسة الحربية في العاصمة وعند توليه الإمامة عينه كرئيس للأركان في الجيش الإمامي وبسبب من الصراع بين البدر وعمه الحسن حول الإمامة فقد استطاع السلال إقناع البدر بضرورة جلب أسلحة ثقيلة من الحديدة والسماح للدبابات والمصفحات من أن تتمركز في مواقع هامة داخل صنعاء ..
حوالي الساعة الحادية عشرة وخمسة وأربعين دقيقة ليلا بعد انفضاض مجلس البدر مع كبار رجال الدولة ومن هؤلاء كان السلال والإرياني طلب البدر من السلال البقاء لمناقشة المؤامرة لكن السلال تملص بذكاء ..
وهو عائد إلى بيته لم يكن يعلم البدر أن الدبابات التي سمح لها بالتحرك والتمركز قرب البشائر هي من ستقوم بقصف قصره آنذاك ..
وأما عبد المغنى فاتجه إلى منزل السلال وأقنعه بتولي موقع الرئيس وتوجه وإياه إلى الإذاعة لتلاوة البيان الأول للثورة ..
المصادر :
* 1 فيصل من نشأته حتى اغتياله للفرنسي بنوا ميشان ./ عرض .ابراهيم سلامة مجلة العربي الكويتية .العدد 206 ابريل 1976.
(#)؛ سلطان ناجي . التاريخ العسكري لليمن .

قد يعجبك ايضا