الثورة / يحيى الشامي
معركة ما وراء الحدود في حساباتها الاستراتيجية:
حديث الانبهار الذي يُدلي به العسكريون لا يتوقف عند حدود الجغرافيا الواسعة لمعركة النفَس الطويل ، ولا ينتهي بتوصيف الإرادة الصلبة والإيمان الراسخ بالقضية بل يتعدى ذلك إلى الإنجاز الاستراتيجي ، وفي اللغة العسكرية وأبجديات الشعوب يعد ثبات اليمنيين خلال ألف يوم من حصارِ مفروض وعدوانِ يشنّه تحالف دولي هو نصر بحد بذاته.
في معارك الحدود وما وراءها يُقاس إعجازُ ما يُنجزهُ المجاهد اليمني بحجم الترسانة المدججة بالسلاح التي يتصدى لها ، آلية مدرّعة تواجه مقاتل ينتعل الأرض وقدميه ، أحدثُ طائرة تلاحق من خلال مظلة تحليقها المتواصل وبقنابلها الأمريكية البريطانية المحرمة والتقليدية مقاتلاً ببندقيته ، مفارقات فاصلة تجلى فيها مقاتل استثنائي بإرادة فولاذية صلبة ، يقول عنه منظرو العلم العسكري وأكاديميو الكليّات الحربية إنه فرض على خارطة المواجهات المتصاعدة من يومها الأول فنوناً قتالية فريدة وأضاف الى العلم العسكري والمناهج الحربية فصولاً ثمينة ما تزال تخضع للدراسة والتأمل في معاهد ومراكز البحث العسكري وتحظى باهتمام ذوي التخصص والمهتمّين ، تأتى هذا كنتاج عكسي أفرزته تحديات الآلة العسكرية الضخمة وقساوة المسارات المفروضة ومحدودية الخيارات المتاحة وجميعها ذات نسق تصاعدي متواصل.
خارطة المعارك
في خارطة معارك الحدود وما بعدها خلال ألف يوم من عمر الاقتحامات و الكمائن والقنص والقصف على مواقع جيش العدو السعودي كرّس المقاتلون اليمنيون حقيقة أن الصراع في هذه المساحة الجغرافية يتجاوز علامات الحدود بين البلدين إلى صراع وجود ومصير كيانات ودول، وهي الحقيقة التي ثبّتها المقاتل اليمني كطرف لأي معادلة يتخلّق منها واقع دولي جديد.
المعارك في مساريها الهجومي والدفاعي تراوحت خلال ألف يوم بين تصعيد بلغ ذروته مع توغل مجاهدي الجيش واللجان الشعبيّة عُمق أراضي جيزان وعسير ونجران ، إلى عمليات تنكيل ركزت على العنصر البشري بالقتل قنصاً وضرباً وكمائن مروراً بتهشيم الصورة النمطية للآلية المُدرّعة وتحويلها إلى توابيت موت محقق ، وقد سجلت كاميرا الإعلام الحربي في ثنايا هذه الانتصارات نماذج وإيقونات عبرَ صيتها وصوت اليمني فيها الحدود وبلغ مسامع الشعوب والأنظمة وتناقلتها صحف الغرب وشاشات الشرق في سياق تغطية إعلامية كسرت حواجز حصار المشهد في اليمن المفروض ضمن حصار شامل في سياق حرب عدوانية هي الأخطر في تاريخ اليمن.
وفي كواليس المجهود المبذول خلف المتارس ومرابض المدفعية على الحدود كثير مما يخفى ويؤجل نشره أو عرضه بحكم اعتبارات اللحظة, أملاً في ادخاره كوثيقة هامة ومرجعيات وثيقة ومصادر حقيقية يستمد منها كتبة التاريخ موادهم وتفسيراتهم لما عُد معجزة خارقة للمألوف ومغايرة لواقع ووقائع ما افترضته المدارس العسكرية والأكاديميات.
الجغرافيا العسكرية
قبل الحديث عن المعارك التي خاضها المقاتلون اليمنيون مواقع ومعسكرات وثكنات وتحصينات الجيش السعودي ، يجدر بنا التنويه إلى نقطة يغفلها الكثيرون رغم أهميتها في الحسابات الميدانية للمعركة وارتباطها بنتائجها ، فقبل شروع مجاهدي الجيش واللجان في التوغل في عمق جيزان ونجران وعسير كان المقاتلون اليمنيون قد خاضوا معارك شرسة ضد قوات حرس الحدود السعودي داخل الأراضي اليمنية في كل من صعدة وحجة ، وهي معارك استمرّت لأشهر تجاوزت الثلاثة في بعض الجبهات عُرفت بمعارك تطهير الحدود من مواقع وأبراج وتحصينات الجيش السعودي التي أنشأها داخل الأراضي اليمنية خلال صفقات بيع عُقدت إبان ثورة العام 2011م ، وشملت مساحات كبيرة من المحافظتين الحدوديتين صعدة وحجة ( جبالاً وأودية وهضاب..إلخ ) ، والمعروف أن قادة عسكريين يمنيين كباراً استلموا مبالغ مالية مقابل تسليمهم مواقع لمصلحة حرس الحدود السعودي ، ومن أشهر هذه الجبال جبل ملحمة يف مديرية شدا من محافظة صعدة ، وتبّة أم بي سي في مديرية الظاهر ، وسلسلة الجبال المجاورة لمعسكر الكمب في مديرية بكيل المير من محافظة حجة ، فضلاً عن عشرات المواقع والجبال شرق صعدة وقبالة المنفذين الرئيسين ( علب ، والخضراء) ، وقد نجح المجاهدون اليمنيون خلال تلك الفترة من اخراج الوجود العسكري السعودي وتطهير كل الجبال والمواقع اليمنية ، لتبدأ حينها معارك التوغّل داخل أراضي نجران وجيزان وعسير، وهي معارك تزامن الشروع في بعضها مع تواصل معارك تطهير الأراضي اليمنية، بمعنى أن معارك التوغل جنوب جيزان بدأت قبل اكتمال تطهير الجبال قبالة عسير ، فيما حرص الجيش واللجان الشعبية في جبهات نجران على سد جميع الثغرات الحدودية الجبلية والصحراوية ممسكين زمام المبادرة فيها ومتحكّمين في سير المعارك على الأرض.
العوامل العسكرية
لعل تجربة اليمنيين التي خاضوها في الحرب السادسة في العام 2010م ضد قوات الجيش السعودي أكسبتهم رصيداً وافراً من الخبرة القتالية مع جيوش دول تنحصر عوامل القوة لها بالدرجة الأساس على عاملين اثنين:
الأول : سلاح الطيران ،
والثاني : قوات بديلة عن جيوشها الرسمية ( مرتزقة ومستأجرين)
الدروس العسكرية للحرب السادسة استفاد منها الجيش السعودي أيضاً ، وإن لم تكن فائدة الأخير بنفس مقدار الفائدة المتحصلة لدى اليمنيين لأسباب عدة ليس المقام لذكرها ، الجانب السعودي استفاد وفق عقلية دفاعية بحتة ، ويلمس هذا من طريقة وترتيبات أداء قواته على الحدود التي باشرها عقب انتهاء الحرب السادسة ، فقد عمد خلال الأعوام الخمسة بين عامي 2010 إلى عام 2015م تاريخ شن العدوان على اليمن الى استحداث مئات المواقع والتحصينات الدفاعية والنقاط ذات الهدف التجسسي، كما شيد عشرات الأبراج وأنشأ عشرات المعسكرات داخل أرضي جيزان ونجران وعسير، إلى جانب جهده الكبير الهادف لإيجاد منطقة عازلة تفصل بين البلدين مقتطعة من داخل الأراضي اليمنية تتراوح بين الثلاثة إلى العشرة كيلومترات وفق ما خطط له جيش العدو السعودي ، وهو أحد الأهداف المعلنة له في مشاركته الحرب السادسة على اليمنيين ، وقد استنفر لنظام السعودي كل طاقته في محاولة تحقيق الهدف على الواقع وكانت أحد أقوى وسائله شراء ولاءات قادة عسكريين كبار في الجيش اليمني بالإضافة إلى بعض الشخصيات والوجاهات القبلية التي كانت تتلقّى دعماً كبيراً من جهاز الاستخبارات السعودي.
وقد وقع قادة الجيش السعودي عند اندلاع المواجهات على الحدود بين البلدين في خطأ ترتب عليه خسائر جمّة بشرية وعتاد، إذ اقتصر تفكير العقل العسكري السعودي في رسمه حدود المواجهات وأطرافها على قواعد الاشتباك ذاتها التي حدثت إبان الحرب السادسة ، حيث حشد الجيش السعودي معظم قواته إلى جنوب جيزان ظناً منه أن الخوبة والخشل في محافظة الحرث ستكون الهدف الوحيد لقوات الجيش واللجان الشعبية اليمنية، غير أن خارطة المفاجآت ما لبثت أن توسعت لتشمل هضاب وتباب عسير فمدنها وصولاً إلى صحراء نجران وجبالها الوعرة، وظلت المعارك تنهش في جغرافية السيبطرة السعودية إلى أن تساقطت معسكرات كبرى وجبال تُعد مفاتيح لما يليها من المدن ، بالإضافة إلى مدن حسّاسة كمدينة الربوعه في عسير ومدينة الخوبة في جيزان ، ومعها انتقلت مرابض المدفعية ومحاول القتال إلى مواقع متقدّمة داخل جيزان ونجران وعسير، وألتهمت النيران اليمنية مئات مخازن الأسلحة وتجمعات القوات السعودية بعد أن فجّرَ المقاتلون اليمنيون كل الأبراج الاسمنتية على المواقع الجبلة أو على مشارف المعسكرات السعودية.
وكردّة فعل كانت واردة في حسابات العقل العسكري اليمني ، استغاثت السعودية بجيوش بديلة ومقاتلين مستأجرين في سبيل وقف نزيف جنودها ومالها وسمعتها على أيدي المقاتلين اليمنيين ، فبدأت بنقل آلاف المنافقين اليمنيين من جبهات الداخل اليمني إلى جبهات الدفاع عن المملكة عند حدودها الجنوبية ، وكان النصيب الأكبر لأبناء المحافظات الجنوبية ، ولم تتردد المملكة الوهابية بالاستعانة بمعسكرات تنظيمي داعش والقاعدة و بوأتهم مقاعدهم للقتال إلى جانب جنودها من حرس الحدود وقواتها البريّة، ليتكشف من جديد حقيقة المملكة وتُسفر معارك الحدود عن وجهها الوهابي التكفيري، في مقابل تزايد رهان اليمنيين على صمودهم وعصاميتهم وجدارتهم بالنصر التاريخي المرتقب.