خليل المعلمي
أضاءت الحضارة العربية والإسلامية سماء العالم بالمعرفة والفكر والفلسفة لقرون عدة وكانت أساساً لنهوض الحضارة الأوربية في القرن الخامس عشر الميلادي، بعد أن استفادت مما قدمه العرب من ترجمات للعلوم اليونانية وحضارات آسيا في الهند والصين وما أضافوه من علوم جديدة وأفكار جديدة واختراعات في مختلف العلوم.
بعد ذلك عاش العالم العربي مرحلة عزلة فرضتها عليه عوامل عدة من أهمها الصراعات السياسية، فكان للغرب جولة في النهوض والتطور وعلا الإنسانية بحضارته الحديثة.
لقد تدارك العرب والمسلمون قصورهم في هذا الجانب، ويحاولون منذ أكثر من قرن محاولة اللحاق بالركب الحضاري، فانطلقت النهضة العربية في العصر الحديث مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وظهر عدد من المفكرين أمثال جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجورجي زيدان والعقاد وطه حسين وغيرهم ممن كان لهم مشاريع تنويرية في المجال الفكري والفلسفي والنهضوي، وقدموا خلاصة أفكارهم في إثراء المشهد الثقافي والفكري العربي ودعوا إلى تحصيل المعارف والعلوم والاستفادة منها في مجالات الحياة جميعاً في البناء والزراعة والفنون، وإلى إصلاح النظام السياسي والاقتصادي والأخذ بأسباب التطور من مواكبة العلوم الحديثة.
وتاريخنا الحديث والمعاصر مليء بالشخصيات التنويرية التي حملت على عاتقها مشاعل التنوير والتطوير والولوج إلى الحضارة الإنسانية الحديثة، وتكاثر المناصرون والمؤيدون لعملية التنوير وتم إنشاء المنتديات الثقافية والفكرية والجماعات التنويرية، وكانت الصحف إحدى أدوات ووسائل التنوير آنذاك حيث ساهم الكثير من المفكرين والتنويريين في تأسيسها والنشر فيها.
في هذا السياق نتذكر رائد التنوير الأول في اليمن وبالتحديد في مدينة عدن وهو الأستاذ محمد علي لقمان والذي يعتبر أول قانوني عربي في المنطقة وأول ناشر لصحيفتين احداهما كانت تنطق باللغة العربية (فتاة الجزيرة) والأخرى باللغة الإنجليزية في عدن في زمنٍ كانت المدينة – الميناء الشهير مُلتقى نابض بالحياة والتلاقح الثقافي والحضاري بين الشرق والغرب.
وبجانب إصداره للصحيفتين أسهم محمد علي لقمان في إنشاء عدد من المنتديات والأندية الثقافية والأدبية كـ”النادي الأدبي العربي”، “ونادي الإصلاح”، و”مخيم أبي الطيب المتنبي”، فضلاً عن “الجمعية العدنية” التي اتخذت شكلاً من أشكال النضال ضد الاستعمار البريطاني.
وخلال مسيرته التربويّة والأدبية والنضالية صدر له 18 مؤلفاً توزعت بين دراسات تربوية لإصلاح التعليم في عدن (باللغة الإنجليزية) وروايات أدبية ومذكرات شخصية وكتب قاربت القضايا السياسية والتاريخية.
وكان همه الأكبر هو قضية النهضة وشروطها وواقع التخلف الذي كانت ترزح تحت وطأة طبقاته الغائرة أجزاء كبيرة من الوطن والمنطقة والعالم العربي.
وفي سبيل هذه المهمة التاريخية الضاغطة، كانت محاولته المبكرة للبحث عن إجابة لسؤال نهضويٍّ بامتياز ظل وما زال هو الشغل الشاغل لكل مثقف عربي طيلة العقدين الأخيرين ومنذ صدمة الحداثة مع الاستعمار الغربي وذلك من خلال كتابه الذي حمل عنواناً دالاً “بماذا تقدّم الغربيون؟” بموازاة مبادرته لإصدار أول صحيفة عربية وإنشاء النوادي الأدبية والفكرية كمحاولة لرأب الصدع بين الجهد النظري ونموذج عملي يستطيع من خلاله تسريب أفكاره وملاحظاته حول شروط التقدم والنهوض التي كانت حصيلة لمعارفه ولخبراته ولإقامته بين مدنٍ غربية وشرقية كانت في ذلك الوقت الأكثر ازدهاراً على مستوى العالم، وليستفز من خلال تسليط الضوء على الفجوة الشاسعة بين دولٍ نهضت وأخرى تخلفت العقل المحلي الذي كان إلى ذلك الوقت مُستلقياً بأريحية تامة على بحرٍ من ظلمات التخلف والجهل، محاولاً حثه على اقتفاء الأثر النهضوي المتين، ما أمكنه إلى ذلك سبيلا.
في تلك الفترة تركت الصحيفة ذات الهدف التنويري أثراً بالغاً في المجتمع بانت ملامحه من خلال الحركة الثقافية والأدبية التي ازدهرت كثيراً في فترة الأربعينيات من القرن المنصرم وتوالى إصدار الصحف في زمنٍ كان للصحافة دور مؤثر جداً فقد كانت هي سُلطة الإعلام الأولى وكانت في نفس الوقت جزءا كبيرا من سُلطة الثقافة والفكر وسطوتهما.
كان التعليم وتحفيز الشباب للاهتمام بالإبداع ونشر القيم الجديدة هي عناوين رئيسية بالنسبة للقمان في بحثه عن شروط أوليّة لإحداث النهضة. وقد كان اهتمامه بالمرأة كبيراً باعتبار دورها واسهامها سيكون له أثر بالغ في تقدم المجتمع، فنادى إلى تعليمها وافساح المجال لها، وقدم نماذج عملية من خلاله أسرته وأولاده، فتحصلت الريادة لهذه الأسرة من وجوهٍ كثيرة.
تجاوز انشغال لقمان بالنهضة وشروطها الوقوف فقط على مدركاتها النظرية، فقد جاءت أفعاله وانشطته وآثاره في مجالات كثيرة ومتنوعة استكمالاً لدوره التنويري المتسق والمتناسق، وسعياً دؤوباً لتهيئة التربة المحلية لتقبل بذرة التقدم واستزراعها استزراعاً طبيعياً دون أن تموت كمداً في جوف التراب أو تُولد كائناً مشوهاً.
أما طه حسين عميد الأدب العربي فيعتبر أحد رواد التجديد في دراسة الأدب العربي القديم، فكان يحرص كل الحرص على كل ما من شأنه أن يحفز على التفكير والتمعن وينتهي بذلك إلى أن يفتح لطلبته آفاقاً غير معروفة، وقد غرس فيهم حرية الفكر وعلمهم التعبير عن آرائهم، وسجل في رسالة الدكتوراه الأولى في الجامعة المصرية بعنوان “ذكرى أبي العلا” 1914م أول خطوة في النقد فجعلها في النقد التطبيقي.
ومن المهم الإشارة إلى أحد الأعمدة المستنيرة في الثقافة العربية وهو جورجي زيدان الذي قصد مصر لدراسة الطب وهو لا يملك المال، لكنه عمل في الصحافة وأسس مجلة “الهلال” التي صدرت عام 1892م لتشق الطريق أمام مشروع ثقافي مهم، فقدم من خلال المجلة عددا كبيرا من الترجمات الاجنبية والعربية ودعا إلى الحفاظ على الثقافة الشرقية، مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما هو حديث ومفيد، كما لعب دورا مهما كمؤرخ للتراث الإسلامي والعربي. ومن بين أبرز كتبه في هذا المجال “تاريخ التحدث الإسلامي”.
وبعد أكثر من قرن من الزمن نجد أنفسنا مرة أخرى أمام نفس التساؤلات بل ومزيد من الاستفسارات حول قضية النهضة وشروطها، ماذا حقق العرب في هذا الجانب وماهي اخفاقاتهم في الكثير من الجوانب خاص المتعلقة بالحقوق والحريات والحكم الرشيد وغيرها؟ كما لا يمكن أن ننسى الأوضاع الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، فهل سنجد لتلك إجابة في ظل الأوضاع والصراعات الحالية؟.
Prev Post