التركة

يحيى جحاف

كان أحمد وحيدا لأبوين ماتا في الحرب الأهلية.. فكفله جده منصور الباقي الوحيد من تلك الأسرة.. إذ كان أبو أحمد وحيد جده منصور من الأبناء، لذلك حزن عليه حزناً شديدا. فكان حبه لأحمد مفرطاً، لعله يعوضه عن كثير من العواطف التي كان يكنها نحو ابنه الوحيد.
عاش أحمد وترعرع في كنف جده المسن الذي كان يزداد ضعفاً ووهناً يوماً بعد يوم، لكن القرب من جده اكسبه أشياء كثيرة من تجاربه في الحياة التي وجدها مع الأيام حاضرة في حياته. منها تلك الحكمة التي كان يسمعها. بصورة دائمة من جده قائلا له في كل يوم:
الحياة كفاح.. الحياة كفاح.. إني أرى الموت يدنو مني وأنت الوحيد الباقي من هذه الأسرة أما أنا فلا أدري كم بقي لي في هذه الدنيا؟
– أسأ ل من الله لك العافية وطول العمر يا جدي.
لكن هناك ما يؤرقني يا ولدي أحمد.
– وما هو يا جدي؟.
أنت.. أنت..
– أنا.. أنا.. يا جدي؟.
نعم. أنت.. يا أحمد، فقد حان الوقت أن أراك قبل الرحيل من هذه الدنيا سعيداً ومستقراً، وحولنا أولادك وحتى تكتمل سعادتي وتنجلي همومي التي أحملها معي طوال حياتي، لهذا لابد أن تتزوج في أقرب فرصة.
– لكن يا جدي أنت تعرف الظروف التي نعيشها والزواج مسئولية، والتزامات، وأرى أن هذا الموضوع بدري عليه.
لا بدري ولا غيره أنت اليوم بلغت الثامنة عشر من العمر وأنا أحسبها، أليس كذلك. ؟
– أعتقد ذلك. حسبما وجدته مكتوباً في مقدمة المصحف الشريف.
إذاً لابد أن أزوجك، وأتمنى أن تقول لي بمن ترغب فيها من بنات القرية لأحطبها فما رأيك؟.
– لكن الموضوع يفرض علينا التزامات كثيرة يا جدي.
الالتزامات التي تحكي عنها قد عملت حسابها منذ وقت مبكر وعملت حساب هذا اليوم، فمن بعد أن رحل والدك من الدنيا وأنا أجمع لهذا اليوم ما استطعت، والآن كل شيء جاهز، فكن مطمئنا..
– لكن.. لكن.
اترك لكن، أنا قررت، وسبق الحديث أني أريد أن أراك متزوجاً قبل رحيلي عن الدنيا..
– الله يطول عمرك يا جدي أنت البركة.
لكن لم تقل لي أية فتاة تريد؟.
– إذا كانت هذه رغبتك فلك الاختيار.
ما رأيك في بنت الحاج علي؟.. أسرة كريمة وأهلها طيبون.
– على بركة الله يا جدي.
ذهب الجد بعد أن وقع اختياره على صديقه مسعد ليصطحبه إلى منزل الحاج علي لمفاتحته في رغبة أحمد أن يكون زوجاً لابنته. فما كان من الحاج علي إلا أن رحب لمعرفته الجيدة بسلوك أحمد واستقامته ورجولته فهولن يجد لابنته أحسن منه.. لكنه اشترط أن يمهلوه بعض الوقت لكي يعطيهم خبراً نهائياً في الموضوع.
عاد الجد وصديقه مسعد كلاً إلى منزله، وبعد أسبوع جاء الخبر لتبدأ بعد ذلك مراسيم الزواج، وبعد أيام قليلة زفت ابنة الحاج علي إلى دار أحمد ليستقبلها الجد بفرحة غامرة اكتملت بدخولها سعادته التي كان يأملها قبل وفاته، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أنجبت أولاداً عاشوا مع جدهم الذي بدأت صحته تتدهور نتيجة لكبر سنه وهو الأمر الذي أدى إلى مفارقته الحياة. الشيء الذي آلم أحمد كثيراً بفقدانه جده الذي عاش معه رحلة طويلة تعلم فيها دروس الحياة أغنته عن كثير من المدارس التي لم يدخل أبوابها، نتيجة انشغاله بالأرض ومتطلبات حياة أولاده وزوجته تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
عمل احمد بجد واجتهاد في الأرض القليلة التي ورثها عن جده وساعدته زوجته في الكثير من الأعمال، لكن تلك الأرض لم تعد تجدي، فقام ببيعها واشتغل بالتجارة ليبدأ من بائع تجزئة صغير إلى أن وصل إلى تاجر جملة.. ومع توسع نشاطه التجاري أوكل بعض المهام إلى بعض أولاده الذين لم يسيروا على نهجه .
كانت سيرة أحمد عطرة ويحمل ألأمانة والصدق قي بيعه وشرائه وهو الشيء الذي جعل الناس يتعاملون معه ويكنون له كل الاحترام والتقدير. ويثنون عليه في تجمعاتهم، ويذكرون سيرته العطرة، لكن لكل إنسان طاقة محدودة، إذ بدأ الوهن يدب فيه، ولم يعد يشرف على تلك التجارة الواسعة، فبدأ الأولاد يسيطرون على بعضها ويستأثر كل واحد منهم بجزء منها. إلا أنهم لم يحملوا معهم شيئاً من تلك الصفات التي عرفها الناس في أحمد طول حياته من بائع بسيط  حتى أصبح من كبار التجار في البلاد.
توفى احمد وبدأ أولاده بتقسيم تلك التركة الكبيرة التي تبق إلا سنين معدودة، حتى ذهبت أدراج الرياح، وأصبحت في خبر كان.. برغم أمية الأب وتخرج الأولاد من المدارس، والجامعات. نتيجة عدم حفظهم لتلك الوصايا، كالحرص على الأمانة والمصداقية في التعامل والخط الذي أسسه أبوهم فكانت النهاية السقوط المدوي من خلال تبني البنوك والمحاكم بعرضها للبيع بالمزاد العلني بعد الزج بهم في السجون ليصبحوا فقراء.. .

قد يعجبك ايضا