الغربي عمران
زهرة مرسل روائية من الصومال الجريح.. تقيم في القاهرة.. صدر لها مؤخرا “آجوران عين افريقيا” من بيروت, دار الفارابي . وهو العمل الثاني بعد “أميرة مع وقف التنفيذ ”
الرواية الأولى التي أقرأها للكاتبة بل والادب الصومالي.. رغم أن ما يفصل بين اليمن والصومال سوى مسافة جغرافية قصيرة .. فمن جزيرة سقطرى نرى البر الصومالي خاصة في لحظات الأجواء الصافية. ومع ذلك نجهل المشهد الأدبي.. ولا أعني اليوم.. فاليوم وبلداننا تغلي بنار الإقتتال.. ولكني أعني في سنوات مضت.. دوما كل يجهل الآخر رغم جيرتنا.
بداية بأسطر الصفحة الأولى من”آجوران عين أفريقيا” التي خطتها الكاتبة بأسلوب مقالي فيه من التقريرية.. وأظنها أرادتها مدخلاً للتعريف بأرض الصومال التي تعد كمكان لأحداث الرواية .. ذلك البلد الممتد طوليا من الشرق إلى الغرب على المحيط بمئات الكيلو مترات .. يقسمه خط الاستواء.. ويجاوره من الشمال جيبوتي وأثيوبيا و من الغرب كينيا.
تمنيت لو أن الكاتبة لم تبدأ روايتها بتلك الأسطر .. حيث تؤدي إلى انطباع لم يتصفحها بأن ذلك هو أسلوب الكاتب طوال الرواية.
“هنا على الشواطئ الذهبية عشت أنا “آجوران” ابنة أحد كبار تجار الامبراطورية والوحيدة التي سميت باسمها”. إذاً من هذه الجملة في منتصف الصفحة الثاني يتغير أسلوب الكاتبة لتحلق بالقارئ في سماوات من الدهشة والإمتاع السردي. وبها تمنيت لو بدأت الكاتبة روايتها.
“كنت … كعادتي هناك أتكئ على أحد المراكب المقلوبة في الشاطئ.. وأكتب بمحبرة وريشة قد سرقتها من خزانة جدتي ثريا… وحين انتهيت وقفت على عجل وركضت نحو المحيط .ربطتها بحجر ثم رميتها بكل قوة “لن يستطيع قراءتها” همس لي بذلك , وحين استدرت تابع حديثه قائلا:أجدر أن تضعيها في زجاجة حتى يتمكن من قراءتها, سيسيل الحبر منها إذا ألقيتها في المحيط مباشرة”.
تلك فقرة من الرواية لتقرب أسلوب الكاتبة الممتع وأسلوبها اللغوي. ومن يحدث آجوران هو ابن عمها “ليبان” رفيق صباها .. وهو من تعلقت به لتنشأ بينها وبينه علاقة عاطفية متأججة.. وهو هنا يرشدها بأن لا تقذف بما كتبت وسط الماء مباشرة.
اختيار الراوي بضمير المتكلم.. صاحب وجهة النظر .. جعل القارئ يشعر بأنه أحد شخصيات الرواية.. شاعرا بأن تلك الشخصية”آجوران” شخصية حقيقية وما تعيشه واقع.. ولذلك تظل قريبة إلى نفسه.. متعاطفا معها.. شاعرا بكل معاناتها. إذا نجحت الكاتبة في اختيار ضمير المتكلم السارد. لتبحر آجوران في حياة مضطربة يرافقها قلب القارئ. بداية في تلك العلاقة بجدتها لأبيها”ثريا” التي ربطتها بعلاقة مميزة بين شابة وامرأة واسعة الاطلاع تمتاز بالحكمة وتمتلك الكثير من الكتب. وأجزم أن روح الجدة قد تلبست روح الحفيدة وأضحت نسخة أخرى منها. والعلاقة الثانية بابن عمها رفيق طفولتها “ليبان” الذي تعلقت به حتى يوم زفافها إليه.. لحظتها اكتشفت خيانته لها وتعدد علاقاته ومجونه لتصمم على فسخ زواجها وتطليقها منه عنوة قبل أن يمسها. وعلاقتها بوالدها تلك العلاقة المضطربة.. ثم علاقتها بصديق والدها سليمان الأرمل.. الذي تكتشف في النهاية بأنه الكائن المناسب لها رغم فارق العمر. تلك علاقات متداخلة جعلت الكاتبة بعضها ملتبسة وأخرى واضحة. ما زاد فصول الرواية تشويقاً.
الرواية تركز على دور المرأة في ذلك المجتمع الثري بقيمه وعاداته .. فرغم سطوة الرجل إلا أنها برزت كشريكة له في كل شيء.. ويظهر ذلك من امتهانهن للتجارة جنبا إلى جنب.. وقد صورت لنا تلك الرحلة التي امتدت لأشهر عديدة.. ولم تكن المرأة إلا شريكة رغم معاناة ومشاق الترحل.. وآجوران رافقت والدها في رحلته هذه وهي الرحلة التي ظلت تحلم بها.. حيث جابت القافلة أحاء الإمبراطورية من غربها إلى شرقها.. ولم تكن القافلة إلا خليطاً من الرجال والنساء.
المرأة تبدو بشخصية شبه مستقلة على طول أحداث الرواية .. فها هي العمة تتزوج ممن أحبت رغم معارضة اخوتها لفقر المتقدم.. وهاهي الجدة ذات شخصية مؤثرة تعيش بأنفه .. وهاهي آجوران حين تكتشف خيانة ليبان ترفض أن تزف له وترغم الجميع على تطليقها قبل أن يدخل عليها. وهاهي المرأة في التجارة الداخلية للبلاد أحد أعمدتها ..تجوب الشواطئ والقفار بسلعها من مواشٍ وتوابل جنبا إلى جنب الرجل.
الروائية ظلت تنتقل من فصل إلى آخر متعكزة بذور التشويق.. بداية بمضايقة جلال ابن عم آجوران لها .. الذي كان يجزم بأنها ستكون زوجته ولذلك كان كثيرا ما يتابع تصرفاتها ويلاحقها مانعا إياها من اللعب في الشارع أو الذهاب إلى الشاطئ. لتمنعه الجدة وتقنعه بأن آجوران لا ترغب به وهي لا زالت صغيرة.. وينتهي جلال من مضايقتها.
ثم ذلك البوح بحب ليبان ومباركة الجميع لتلك العلاقة .. حتى يعقد قرانهما لينتهي كل شيء. الكاتبة تنهي كل فصل بصراع محتدم بين شخوص الرواية لمزيد من التشويق لينتقل إلى فصل جديد حاملا دهشته.
بداية لعبت الكاتبة بأسلوب إنهاء كل فصل بعقدة التشويق.. مقابلة آجوران شخص” اوجاس سليمان” على أحد مراكب أبيها ..حين التقت بعينيه شعرت بتلك النظرات تخترق صدرها دون أن تعرف من يكون .. دافعة بالقارئ إلى التساؤل حول تلك المشاعر التي أخذت تضطرب بداخلها.. لتترك سليمان من صفحة 41 دون ذكر حتى صفحة 124 حين يظهر من جديد أثناء مرافقتها لوالدها في رحلته التجارية نحو شرق البلاد.. حين يلتقيهم في إحدى المدن .. وفي هذا اللقاء تشعر بأنها تعرفه منذ زمن .. كما تجذبها سعة اطلاعه.. وحبه للسفر والتجارة. في هذه الرحلة يتوفى والدها.. ويقترب سليمان كحامٍ لها.. وأثناء عودتهم يفاتحها بحبه لها .. وحينها تجده رغم الفارق العمري بأنه من كانت تبحث عنه.
وهكذا ظلت الكاتبة تنسج حيلها السردية لجذب القارئ من فصل إلى آخر.. وما موت الأب أثناء رحلتهم من الغرب إلى الشرق إلا إحدى حيلها.. واكتشاف خيانة ليبان قبل زفافها .. وعدم قدرة أمها على حمايتها .. كل ذلك حيل سردية لمزيد من التشويق.. وهكذا على طول فصول الرواية دوما تنتهي الكاتبة بحدث في نهاية كل فصل يقودنا إلى الفصل التالي.
الرواية تدور في أجواء غرائبية بها من سحر الطبيعة.. وعلوم الجغرافيا.. وغرائبية الشخصيات من نساء ورجال ما يجعل القارئ في رحلة سحرية.. إضافة إلى مسحة التدين التي ظلت تطفو على سطح الحكايات.. فالجميع مرتبط بطقوسه.. والجميع يمارس حياته وفق تعاليم الدين.. والجميع يؤدي شعائره. والجميع يبحر في مجرى الحياة الساحر.
الحنين إلى وطن موحد هو أحد تيمات الرواية.. ذلك الأمل بوطن يسوده السلام والمساواة والحرية.. ولذلك استدعت الكاتبة زمن إمبراطورية آجوران من عصور قديمة.. والتي سميت الساردة باسم الإمبراطورية.. حين كانت أرض الصومال في أوج عطائها الإنساني.. حيث كان الجميع منشغلين في الزراعة والتجارة داخل البلاد ومع محيطهم ..مبحرين بسفنهم إلى الهند ودول شرق آسيا.
تستدعي الكاتبة التاريخ لتنير الحاضر.. تحاكم أمراء حروب اليوم بعظماء الأمس. ولم تتخذ من رجال السلطة شخصيات لعملها هذا.. بل اختارت تاجرا وأفراد أسرته لتقدم الإنسان الصومالي ككائن خلاق عامر بالقيم الإنسانية.. وهي بذلك تزرع الأمل في النفوس بعودة هذا المجتمع معافى.. يبني وطناً موحداً آمناً . تسوده العدالة والحرية والسلام.
Next Post