ساعة مع هيكل »1«
عبدالوهاب الضوراني
أرض الكنانة المحروسة الشهيرة منذ فجر التاريخ إلى اليوم بأرض الفراعنة والمماليك والدولة الفاطمية الذين دخلوها فاتحين وموحدين لا قراصنة أو غزاة أو محتلين واقامو0ا على ربوعها حضاراتهم التي لا تزال آثارها وشواهدها حاضرة في ذاكرة الزمان والمكان حتى اليوم، قاهرة المعز والسلطان آيبك والفاتح صلاح الدين او القاهرة الكبرى التي اصبح اسمها الآن التي وصفها المؤرخ والرحالة المستشرق الالماني /شميث هانز خوخ الذي جاءها في منتصف القرن الثامن عشر للميلاد مستكشفا وباحثا ومؤرخا للكثير من الحضارات الانسانية والتاريخية الشهيرة في فجر الاسلام كالأندلس وقرطبة والشام وبلاد فارس اصبحت الآن أطلالاً وأثراً بعد عين نتيجة ما أفسده الإنسان وليس الدهر وعبثت به ايدي البشر بـ(مدينة الألف مأذنة ومنارة ومسجد) الدائبة الحركة التي لا تستكين أو يغمض لها جفن ليلاً ونهاراً.
وانت تجوب أرصفة وشوارع المحروسة وتغذ السير في أحيائها القديمة التي لا زالت تحتفظ ببقايا عبق التاريخ ومآثر الفاتحين يداهمك وهلة ثمة احساس مفاجئ وغريب مفعم بالدهشة والانبهار بأنك تجوب وتوغل عالماً مليئاً بالأساطير والألغاز وأرضاً فرعونية قديمة يمتد تاريخها وحضارتها الإنسانية إلى عهد ما قبل إنشاء دولة الهكسوس ودخول القرامطة القاهرة الذين جاءوا مصر قادمين من الصحراء وبطون الاودية وهم جماعة من الرعاع والبدو الرحل لا ينتمون لقبيلة أو يكون لهم يوما حضارة او تاريخ أو نسب جاءوا اليها كسدنة ومماليك واقاموا عليها مستوطناتهم التي ابادها الفراعنة وسدنتهم من كهنة واحبار المعابد واقاموا على انقاضها امجادهم وجزءاً من حضاراتهم التي لاتزال شواهدها قائمة إلى اليوم كواحدة من عجائب الدنيا هنا في القاهرة الكبرى الجميع يعملون صغاراً وكباراً ذكوراً واناثا وبلاطجة أيضا ولا يتوقفون عن الحركة والتنقل من مكان إلى آخر للبحث ويتقاعس ولا يأكل خبزه من عرق جبينه لا يستحق ان يعيش ويكون له مكان وموطئ قدم فوق اليابسة وبين الناس حتى الاطفال هنا يعملون أيضا قصاراً ومحدثون وفي اعمال متفاوتة ويقتاتون خبزهم من عرقهم وأحيانا تجدهم فوق الارصفة وبأيديهم باقات الورد حتى العم مدبولي أبو العجوز الطيب صاحب كشك بيع السجائر والمرطبات الغازية بحي السيدة زينب الذي يزعم متباهياً للمارة انه واكب ثلاثة اجيال متتالية وكان شاهداً على عصر المماليك وجزءاً من الحملة التي قادها بونابرت ضد مصر ودخول القرامطة والهكسوس المحروسة ويتدارى احياناً منكمشا كالخفاش داخل كشكه الصغير والمتواضع عندما تقرع في اذنيه صفارات حملات المداهمة والتفتيش ولا ينفك يدير اسطوانات كوكب الشرق وهو يدندن ويتمايل طربا كثمل (والله زمان يا ست. والله زمان) يعمل ايضا ويأكل ويأكل احفاده من عرق جبينه وقبوعه طوال الوقت داخل الكشك تحت التهديد وطائلة القانون.
كان ذلك مطلع الثمانينيات تحديداً عن منتصف الالفية الثانية عندما كانت في القاهرة الشهر بأم الدنياً لاول مرة لأشراف على طباعة ثاني باكورة انتاجي القصصي والتي كانت بعنوان (الجدران الاربعة) عندما اضطررت كغيري للسفر إلى هناك لتردي أوضاع الطباعة والنشر في ذلك الوقت في الداخل مما اضطر الكثير ايضا من اصحاب الاصدارات والتصانيف الطباعية الخاصة من الشعراء والأدباء والمثقفين للتنقل بمشاريعهم وإصداراتهم ما بين القاهرة ودمشق وبيروت التي كانت وسائل الطباعة ودور النشر فيها متاحة ومزدهرة ورخصية أيضا عندما التقيته صدفة ودون موعد سابق وانا اقوم لأول مرة بزيارة خاصة لمؤسسة دار الأهرام المصرية التي كانت قريبة ومتاخمة لمكان إقامتي رأيت فيه شخصاً عادياً وتقليدياً بل وغاية في الألفة والتواضع ايضاً وليس محمد حسنين هيكل الاسطورة المحلل والمفكر السياسي الشهير الذي شغل الدنيا والناس كثيراً والذي استطاع أن يعيد لصاحبة الجلالة الصحافة مكانتها وجزءاً من استقلاليتها وهويتها التي كانت مفقودة تحت الوصاية الفاروقية وسرايا البشرات قبل اندلاع ثورة يوليو عام 52م لا يتوقف لحظة عن الحركة والتنقل بين العمال والطباعيين ودوشة المكانين التي كان هديرها يصم الآذان ومبادلتهم جملة من الطرائف وعبارات التودد والفكاهة حتى العم شحاته اقدم موظف في دار الأهرام الذي أفنى شبابه وانحنى ظهره وهو لا يزال يعمل ويتنقل على مختلف انظمة الطباعة قديمها وحديثها ورفض قرارات الاحالة للتقاعد ثلاث مرات الذي يبتدره هيكل قائلاً عندما يصادفه هنا أو هناك وهو يشد على يده الملطخة دائما بالألوان والأخبار (إزيك ياراجل يا عجوز وازي احفادك) ويعني بأحفاده العديد من انظمة الطباعة المختلفة التي تعاقبت على يديه التي قال عنها هيكل انها تلتف بحرير، وبالرغم من دوشة المكائن وضوضاء العمال وثرثراتهم الاّ انه ابتدرني مرحباً بحفاوة والابتسامة لا تفارق وجهه (أهلاً بابن الثورة واليمن السعيد حفيد ذي يزن ويكرب الزبيدي والفاتح الصنعاني أنتم اليمانيون أصحاب حضارات ولكم تاريخ عظيم وثورتكم الصاعدة تعتبر خطوة ناجحة وموفقة على طريق إعادة تحقيق حلم الوحدة بين أبناء الوطن الواحد وستتلوها خطوات اندماجية ووحدوية أخرى لتحقيق طموحات الشعوب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للتحرر من تبعية الأنظمة الفردية).
هذا هو هيكل الذي أٌقام الدنيا وأقعدها والذي وصفته الشمطاء جولدا مايئر أول رئيس لحكومة الكيان الصهيوني في زمن عبدالناصر والقوميين العرب بالأفعى والرجل الثعلب الذي يفوقها مبكراً ودهاء والتي قالت أيضاً أن تواجده على خشبة المسرح السياسي في مصر عبدالناصر يشكل خطراً على مستقبل دولة إسرائيل وإعاقة مشروعها الاستيطاني والاستراتيجي من النيل للفرات. تجده أحياناً يحتسي الشاي إما واقفاً أو وهو يشق طريقه وسط العمال وهدير المكائن وأبواق الحافلات في الخارج أو صاعداً مكتبه المتواضع في الطابق الثالث على قدميه.
عندما التحق بالعمل على بلاط صاحبة الجلالة في بداية مشواره المهني والشائك كان محرراً مبتدئاً في جريدة البعكوكة التي كان يديرها ويرأس تحريرها المرحوم مصطفى زيدان والذي كان هيكل يتولى فيها صفحة الحوادث وأخبار المجتمع والنجوم والبورصة تنبأ له زيدان مستقبلاً باهراً وكان يقول دائماً هذا الفتى سوف يكون له شأن في المستقبل وهي المكانة المرموقة التي تبوأها هيكل بالفعل بجدارة وفتحت له أبواب الشهرة والنفوذ على مصراعيها.
عندما قلده الزعيم الراحل عبدالناصر وسام الاستحقاق الخدمة من الدرجة الأولى وسط أجواء احتفائية أقامها له في منتجع قصر عابدين بمنشية البكري وسط البكر وهو المكان الذي يضم الآن رفاته الطاهرة والذي أصبح مزاراً ومعلماً تاريخياً وحضارياً يأتي الناس والزعماء والوفود لزيارته من كل مكان والتي حضرها لفيف من كبار الشخصيات الاجتماعية والسياسية وأساطين الفكر والثقافة والأدب في مصر والوطن العربي كمحفوظ وإدريس وأباظة والنقاش والسباعي وجودة صالح ومصطفى أمين وغيرهم من الرواد وكبار المفكرين الذين أثروا المكتبة العربية وكان لهم إشعاعً حضاريً في عصر النهضة ابتدره عبدالناصر قائلاً وهو يشد على يده بحرارة (أهلاً .. بهرم مصر الرابع) الجدير بالذكر أن الجرائد طالعتنا في اليوم التالي تقول .. إن هيكل خلع الوسام أمام الحضور وتصفيقاتهم وهتافاتهم داخل القاعة وقلده لمحفوظ وهو يبتدره قائلاً: “إنه لك وأنت الوحيد الجدير به ياعم محفوظ مش أنا”.