اللغة العربية في وسائل الإعلام

خليل المعلمي

لقد اهملت لغتنا العربية في كثير من وسائل الإعلام المختلفة وبالأخص القنوات الفضائية التي ازداد عددها مع تطور وسائل الاتصال التكنولوجي، ومع تنوع وتخصص هذه القنوات، زاد الإهمال لهذه اللغة التي ظُلمت من أهلها قبل أن تظلم من غيرهم، وقد تركها متحدثوها لينطلقوا إلى لغات أخرى تاركين لغتهم الأصلية عرضة للإهمال، متناسين أن الله سبحانه وتعالى قد كرمها وجعلها لغة القرآن والتنزيل وحفظت من خلال كتاب الله عز وجل خلال القرون السابقة.
واللغة العربية قد جوبهت من قبل وسائل الإعلام المختلفة خلال العقود السابقة وأصبحت معظم المحطات الفضائية تقدم البرامج المختلفة باللغة الدارجة العامية، مستخدمة لذلك بعض الأعذار والأسباب بأن الشارع لا يتكلم إلا اللهجة العامية وبذلك فلابد من مخاطبته بهذه الطريقة، متناسية بأن التحدث بالفصحى هو من يحافظ على هوية الشعوب العربية ولغتها وثقافتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها.
إن اللغة في الأصل من أهم أدوات التشكيل الثقافي ومن أهم عوامل تشكيل الأمم، ذلك أنها وعاء الفكر وأداة التعبير والتواصل والتفاهم بين الناس، فاللغة تقوم بتوثيق الصلات بينهم وتقوي روابطهم وتبني ثقافتهم وتشد وحدة اللحمة بينهم، وهي كذلك مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي وتراثها، الذي يجسر بين حاضرها وماضيها ويصل حاضرها بمستقبلها، ويحدد قسمات شخصيتها وملامح هويتها، فهي الوطن الثقافي الذي يصنع الوجدان ويحرك التفكير ويترجم الأحاسيس ويغير السلوك ويسهل تبادل المعارف وتلقي العلوم، وهي بذلك المسبار الحقيقي لإدراك أغوار الشخصية وميولها واتجاهاتها، وتحديد أهدافها.
ونظراً لأهمية اللغة ورسالتها ودورها فقد نشأت حولها علوم ودراسات متعددة مثل علم اللسانيات، وعلم اللغة المقارن، وفقه اللغة، والأجناس الأدبية في النثر والشعر والرواية والمقالة والقصة، وسائر الأجناس الأدبية الأخرى، إضافة إلى النقد الأدبي الشريك الرئيس في البناء اللغوي الذي تمحور حول الأساليب والمناسبات وطرق الأداء وعلم القواعد أو النحو، لصون اللغة وحمايتها والامتداد بها بشكل سليم، وعلم الصرف الذي يبحث في أصول اللغة وأوزانها، والاشتقاق والتركيب والمزج والنحت الذي يكسب اللغة المرونة، ويمكنها من القدرة على الاستجابة للتطورات والمتغيرات الاجتماعية وعلم القراءات والتجويد، وعلم مخارج الحروف.. ولعل في مقدمة هذه العلوم جميعاً وثمرتها، يأتي علم البلاغة بفروعها الثلاثة: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع.
وتواجه اللغة العربية الكثير من الإشكاليات ومنها المفاضلة بين اللغة الفصحى واللهجات العامية المحلية، واعتبار العامية الأكثر سلاسة وانسياباً والأيسر في التفاهم والتعارف، وأن الفصحى بنحوها وصرفها ومخارج حروفها هي لغة صعبة ومعقدة في تعلمها وتعليمها لذلك أصبحت معزولة عن الحياة ومحنطة في المعاجم والكتب القديمة، معتبرين أن وظيفة اللغة في نظرهم تقتصر على تحقيق التوصيل والتفاهم بين المرسل والمتلقي، كما تظهر إشكالية أخرى وهي النظرة السطحية والساذجة والمحزنة لقضية اللغة ودورها في التشكيل الثقافي وفي التواصل مع التراث والتاريخ والعقيدة ورسالتها في وحدة الأمة وتماسكها واستقرارها ومخزونها الثقافي.
وتمثل الأمية طريقاً لانتشار العامية وشيوعها وامتدادها وأن السبيل لمحاصرتها واسترداد هوية الأمة اللغوية والثقافية هو القضاء على الأمية ومحوها ومحاولة تطوير وسائل وأساليب العربية وإشاعتها والتدريب عليها وإبراز قدرتها على استيعاب جميع الحالات والتحولات الإنسانية وامتلاك القدرة على التعبير عنها، وإدراك وظيفة اللغة ودورها في حياة الأمة والتواصل لأجيالها وكونها إحدى القلاع الثقافية.
كما أن عدم اهتمام أبناء الأمة بلغتهم وثقافتهم وتحييدها عن لغة العلم في الوقت الحاضر يأتي ضمن الإشكاليات التي تواجهها هذه اللغة أيضاً، وبالتالي أغيظ النظر عنها واتهمت بافتقارها للمصطلحات العلمية والمراجع العلمية التي يحتاجها الباحث والدارس، واعتبارها لغة دين وعبادة معزولة عن المجالات العلمية.
والحقيقة أن اللغة العربية تتميز عن سائر اللغات بأنها ولدت كاملة، كما يقرر الكثير من علماء اللسانيات وأنها بمفرداتها الزاخرة، ومترادفاتها القادرة على التعبير عن الأحاسيس والحالات الدقيقة والمتجاورة المعاني، وقدرتها على التصريف والاشتقاق مؤهلة لأن تكون لغة العلم الإنساني بدقائقه وصياغة مصطلحاته، ولهذا فإن الذنب في تجاهلها وتحييدها هو ذنب الأمة المتخاذلة والمتخلفة والعاجزة عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي انتهى بها إلى العيش على موائد “الآخر” الذي لابد أن تأكل طعامه وتستهلك أشياءه وتتكلم بلسانه، وتفكر بعقله وتعفي نفسها من المسؤولية وبذلك تساهم بإخراج لغتها من الحياة، لأن اللغة كائن ينمو مع الأمة ويتوقف ويتضاءل حال موتها أو سباتها.. ولولا القرآن ومراكز تحفيظه ومتابعة تلاوته في العبادات اليومية لخرجت اللغة العربية من الواقع تماماً.
ولا يختلف دور الإعلام عن دور المناهج التعليمية المتطورة والمهتمة بهذه اللغة وهما من الأدوار الرئيسية في الحفاظ على اللغة وبقائها في حواس وأفكار وثقافة الأمة، ولهذا فلابد من الاعتناء بالمواد الإعلامية الموجهة خاصة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والتي تعتبر أكثر الوسائل متابعة وانتشاراً من قبل العامة، وذلك حفاظاً على ثقافتنا وتاريخنا وتراثنا وهويتنا بل وحفاظاً على كياننا.

Kho2002us@gmail.com

قد يعجبك ايضا