هيبة القضاء ممن، ولمن؟!
عبدالعزيز البغدادي
إذا كان الفساد الذي استشرى في جسم القضاء هو السبب الرئيس في إسقاط هيبة القضاء، فهل لدى شرفاء القضاة الاستعداد والشجاعة الأدبية لفتح تحقيق علمي قانوني قضائي مهني وجنائي لتقصي مكامن الفساد، والمتورطين فيه، ووضع تصور للبدء بإصلاحه بصورة جادة وصادقة ومخلصة، وليس انطلاقاً من مصلحة القضاة الذين يتخذون من مبدأ استقلال القضاء ملاذاً لتمترسهم حوله، ويجعلون منه ذريعة للتعالي على الناس، وعلى متطلبات تحمل المسؤولية من تبعات المساءلة عند اللزوم!.
وحين أدعو لهذا التحقيق الشامل إنما أنطلق من طبيعة وظيفة القضاء التي يتداخل فيها العلم بالمهنة بحق المجتمع، فيما يجب أن تؤديه هذه السلطة من دور في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، تحقيقاً للعدالة وجوباً عليها كما هي موجبات الوظيفة العامة، وليس منة من القضاء.
وإلى جانب السؤال المتعلق بأثر الفساد في إسقاط هيبة القضاء من نفوس الناس تتداعى العديد من الأسئلة في هذه القضية الجدلية، من مثل “سقطت هيبة القضاء”؟، وما معنى هيبة القضاء؟، ومن أين تبدأ وإلى أين ينبغي أن تصب نتائجها؟، وكيف السبيل للوصول إلى مكمن السبب الرئيس لسقوط الهيبة؟، وهل نحن بصدد سقوط لهيبة القضاء، أم أمام سقوط كامل لهيبة الدولة؟؟!!.
تساؤلات كثيرة تثيرها هذه القضية التي تبدو أنها قد وصلت إلى حالة من الاستعصاء عن الإجابة الشافية، ولا أعتقد أن هناك إجابة سحرية في كل الأمور، هناك تصورات مبنية على فرضيات، والفرضية منطلق وليس محطة توقف!!.
والشواهد الأولية تقول: إن هيبة القضاء تكمن في الرمزية التي تحتلها وظيفة القاضي، ومن الطبيعي أن يكون للفساد بالفعل الدور الأبرز في إسقاط هذه المكانة الرمزية.
ولا أعتقد أن أي منصف يستطيع القفز على المرحلة التاريخية من الإفساد الممنهج التي دمرت هذا البلد تدميراً شاملاً، ولا علاقة لهذا التوصيف بروح التسامح التي يعتقد البعض بضرورة التحلي بها، فقد قلنا في أكثر من مقال بأن هناك فرق بين التسامح في الحق الخاص، والتسامح أو التفريط في الحق العام، التسامح في الحق الخاص ملك الأفراد، أي أن بإمكان أي شخص أن يتصرف فيما يملك، إن بالعفو أو بالتمسك بالحق، أما الحق العام فإن من هو في موقع المسؤولية العامة فإنما هو مؤتمن على حق المجتمع كاملاً، وليس له فيه أكثر من نصيب أحد أفراد هذا المجتمع.
إننا بإزاء تاريخ من الإفساد في كامل بنية سلطات الدولة، ومنها سلطة القضاء، يفرض نفسه علينا في كل تفاصيل حياتنا الحاضرة، وفي العمل على صناعة مستقبلنا، ولهذا لا بد من موقف وطني شامل إزاء هذه المعضلة.
والحديث عن إعادة بناء هيبة القضاء سيكون وفقاً لهذه الرؤية الشامل جزءاً لا يتجزأ من إعادة بناء هيبة الدولة التي وصلت إلى مرحلة الدولة الفاشلة، ولولا ذلك ما كان لهذا العدوان البدوي المدعوم بهمجية أقوى دولة في العالم عسكرياً، وبتعاون عناصر من رموز الفساد في النظام الذي فرط بفساده في سيادة الدولة شمالاً وجنوباً، وبدعم من أقوى دولة في العالم!!.
إذاً ولكي نبدأ في إعادة بناء هيبة القضاء، لا بد حتماً من هدم بنية الفساد المشاد بكل هذه الشراسة، وتفكيكها داخل المؤسسة القضائية، ويبدو لي أن هذه القضية لا تخص القضاة، ومنتمي السلطة القضائية وحدهم، بل تخص المجتمع بأكمله، وهو المستفيد من سلطة قضائية مستقلة عادلة ابتداءً بقضاء الحكم والاتهام، ثم بالقضاء الواقف (المحامون)، وكل من له صلة بالمؤسسات القضائية والقانونية والحقوقية.
الهيبة إذاً ليست للقاضي كشخص، بل بصفته ملاذاً لكل من ينشد العدل والإنصاف، والقاضي الفاسد والمهمل لواجباته لا يساهم فقط في إسقاط هيبته وهيبة القضاء، بل ويفقد احترام الناس له!!.
نعم من يتباكى على هيبة القضاء عليه أن يمدد ببصره وبصيرته إلى الأسباب الجوهرية وراء إسقاط هذه الهيبة، وسيجد أن البداية تكمن في وقفة جادة من القضاة مع أنفسهم لمعرفة حقوقهم وواجباتهم نحو الله من خلال الحرص على تحقيق العدل نحو المجتمع، باعتباره صاحب السلطة، ومصدر الشرعية، وسيجدون أنفسهم سائرين سيراً حثيثاً باتجاه بناء سلطة قضائية مهابة لا تتسول الهيبة، أو تفرضها بالهنجمة، بل تجدها صادرة عن طيب خاطر من كل فرد في المجتمع؛ لأن الجميع حينها يجد في هذه الهيبة الصادقة مصلحة له.