حضارة العرب ساهمت في نهوض الإنسانية
تذكير /زيد الفقية
يقف الإنسان حائراً حين يقرأ عن حضارته في كتب كان مؤلفوها من الغربيين ، بين يدي القارئ الكريم هذا الكتاب الذي ألفته المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في خمسينيات القرن الماضي وترجم إلى العربية في طبعته العربية الأولى عام 1964م ونعرضه اللآن في طبعته التاسعة عام2000م1.
لقد مرَّ على تأليف الكتاب ما يربو على ستين عاماً وليس من شك أن ثمَّة من قرأه من المثقفين العرب ، ولست على اطلاعٍ إن كان هناك من تناوله بالعرض أو التحليل ! لكن السؤال الذي أود طرحه اليوم من خلال هذا العرض هل عمل العرب على دراسة ما ورد في هذا الكتاب ؟ في محاولة منهم للارتقاء إلى مستوى نظرة الباحثة في كتابها عنهم ؟.
هنا لست بصدد مناقشة هذا الموضوع ، لكني سأقتصر على عرض الكتاب وتحليل بعض ما ورد فيه ، في محاولة للتذكير بما كان العرب قد وصلوا إليه ، لعل الله يبعث فيهم من يعيد تلك المعارف سيرتها الأولى .
يقع الكتاب في (588) صفحة يتصدره قول الشاعر الألماني (قوته) :
” رائع هو الشرق
القائم خلف الحوض المتوسط.
فالذي يحب (حاظاً)2 ويعرفه .
يعلم وحده ما أنشده (كالدرون)
في كلمة المترجمين : فاروق سعيد بيضون ، وكمال دسوقي، إشارات إلى ما أحدثه هذا الكتاب من ضجة في المانيا، إذ علقت عليه مئات الصحف والمجلات ، وكان عدد من النقاد الأوربيون قد اهتموا بهذا الكتاب أكثر من اهتمامهم بحياتهم الشخصية ـ حسب تعبير المترجمين ـ ، إذ انقسم أولئك النقاد إلى فريقين منهم من هاجم الكتاب والكاتبة معاً بتهمة تعصبها للعرب والتحيز لهم ، في ذات الوقت الذي انبرى عدد من أصدقاء العرب ودارسو الحضارة العربية للدفاع عن الكتاب وكاتبته ، وتشير المؤلفة في مقدمة الطبعة العربية إلى أنه ” لم يكن من قبيل المصادفة البتة أن تكتب سيدة ألمانية هذا الكتاب ، فالعرب والألمان لا تربطهم فقط أيام دولتهم القوية ، التي انقسمت الآن ، …إنما هي رابطة قوية من الفكر والثقافة قد وثَّقت العرى بينهما ، امتدت جذورها في أعماق التاريخ ، واستمرت على مرَّ القرون ولا زالت أثارها حتى اليوم ، مشيرة إلى معالم تلك الروابط والمودة منذ أوقف قيصر الماني عظيم ـ أحب العرب وأعجب بهم ـ الحرب ضدهم وأحل السلام والمحبة إبان الحروب الصليبية 3 .
تعرض الكاتبة في الفصل الأول عدداً من المسميات العربية التي نُقلت عنهم إلى اللغات الأوروبية ومنها على سبيل المثال لا الحصر : المقهى ، الصفَّة، المرتبة ، طاسة ، القندى ، غرّافة ، السكَّر ، الكحول، البرقوق، النارنج ، السبانخ، البن، قبَّة، الفضَّة ، القطن، الليلك4 وغيرها ، تشير الكاتبة إلى أن هذه المسميات من الأسماء العربية التي حملها العرب إلى الأندلس وعبرت من هناك إلى بقية البلدان ألأوروبية وهذا أمر طبيعي أن تحمل حضارة معينة تكون هي مصدر المعرفة في زمنها بعض المسميات ، لكن المهم في هذه المسميات ما تبعها من صناعات كانت الحضارة العربية قد حملتها إلى اوروبا في ذلك الوقت .
أما في الفصل الثاني فتعرض الكاتبة لحركة التجارة العربية مشيرة إلى أن ثمَّة سفينة تمخر عباب الأطلسي عام 973م مارة بالشواطئ الغربية الفرنسية ترافقها بعثة برئاسة إبراهيم بن أحمد الطرطوشي ، كانت تحمل بضائع مختلفة منها : الزيت الأندلسي ، والتين ، والخمور، وحجر الشبَّة القشتالي للدباغة ، وتوابل شتى ، كانت تفرغ حمولتها في ملقة ، وبردوا ، وروان ، وإترخت ، وسلازفك، وتؤكد الكاتبة دخول البضائع الواردة من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب إلى الحياة اليومية الأوروبية ، ولم تقتصر على استعمال التوابل والبخور فقط ، وإنما تعدتها إلى الانتفاع بالحشائش الطبية ، فأصبحت هذه كلها من ضرورات الحياة عند رجال الكنيسة ، ورهبان الأديرة ، الذين لم يعد بإمكانهم الاستغناء عنها في موائدهم 5 .
تشير الكاتبة في الفصل الرابع المعنون (في مدرسة العرب ) إلى أن العرب هم من أدخلوا الورق إلى القارة الأوروبية من خلال جلبه للتعامل به والكتابة عليه في أسبانية وفرنسا، وغيرها ، ومن ثمَّ كان تاجر التوابل ( المان سترومر) أشهر أبنا العائلة “النورنبرغية” الواسعة التجارة أول من فكر بصنع الورق في بلاده نفسها ، فأنشأ ـ في عام 1389م ـ أولى مطاحن الورق في المانية ، لكنه أشار إلى أن بناء المطاحن كان اختصاصا عربياً ، حققه العرب أنفسهم ومنحو أوروبة كل أنواع المطاحن ، ومنها المطاحن المائية والهوائية ، وقد أدخل العرب صناعة الورق إلى بلادهم عام 751م حين نقلوا جماعة من أسرى الحرب الصينيين إلى سمر قند ، وحين أتضح أن قسماً منهم كانوا بارعين في صناعة الورق خبراء فيها جعلوهم يعملون في ذلك، إذ أدرك الخليفة المنصور في ـ (754ـ 775) ـ قيمة هذه المادة للكتابة نظراً لاستهلاك علمائه وكتبته كميات منها في وزارته ومجامعه العلمية . أما في حكم ابنه هارون الرشيد فقد بنى أول معمل لصناعة الورق عام 794م6 .
أما في مجال التصنيع العسكري فتذكر (زيغريد هونكة) أن العلماء العرب وضعوا نظرية تركيب البارود المندفع في القرن الثاني عشر ، وكان ذلك لحاجتهم للدفاع لصد العدوان الغربي عليهم، إذ دفع الحكام العرب علماء الكيمياء العرب إلى إجراء التجارب خاصة على البارود وغيره من المواد الكيميائية . ويذكر (حسن الرماح) في كتاب الحرب وفي غيره من الكتب التي تحدثت عن شؤون الحرب في ذلك الزمن أن مواد المتفجرات والأسلحة النارية كانت تخلط المواد الكيميائية ببيض متحرك حارق ، كان ينطلق لقذائف نارية قاصفة كالرعد، وهي أولى الرعَّادات (طوربيدات) مزودة بمحركات صاروخية ، ويذكر أن عرب الأندلس في أسبانية هم أول من استعمل القذائف النارية في أوروبة لأهداف عسكرية.
كان من معالم تطور العرب في ذلك الزمن أن سخر الحمام الزاجل لسعاية البريد المنتظم وحامل الأخبار السرية ، والتراسل الغرامي بين المحبين ، وقد أدخله الصليبيون إلى أوروبة ، وأصبحت صورة الحمامة وفي منقارها رسالة رمزاً للحب7.
تؤكد المؤلفة على أن القرن الثاني عشر شهد ظهور الأرقام العربية وبدأ الناس يستخدمونها ، بعد لغط كبير حول الأرقام اللاتينية التي لم تكن تستطيع تلبية الحاجة بسبب تعقيد نظامها العددي وعدم وجود الصفر ، لكن الأرقام العربية جاءت ملبية للحاجة الحضارية لعصرها بما فيها نظام النطق إذ ينطق الآحاد قبل العشرات ، فيقال مثلاً : (مئة وثلاثة وخمسون )، وهكذا اتبع الألمان نظام قراءة الأعداد عند العرب ، وتعيد هذا التقدم العلمي الحاصل في علم الطيران والفضاء إلى ظهور هذه الأرقام ونظام ترتيبها ، وكان الخوارزمي هو أحد أعلام علماء الرياضيات في عصره الذي جلبهم المأمون إلى بلاطه ، وقد ألف كتباً عدة في الجغرافيا والفلك ، ترجمها بعد ثلاثة قرون العالم الانجليزي ” أدلارد فون باث” إلى اللاتينية وعرَّف بها الغرب ،ولم يكتفِ الخوارزمي بتعليم الغرب كتابة الأعداد بل تخطى تلك المرحلة إلى المعقد من مشاكل الرياضيات ، ومازالت القاعدة الحسابية (Alg0rithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من اعلامها ،عُرِف أنصاره في أسبانية وألمانيا وانجلترا الذين كافحوا كفاحاً مريراً من أجل نشر طريقته الرياضية باسم الخوارزميين(Hlgorithmiker)، وكان ظفرهم على أنصار الطريقة الحسابية المعروفة باسم (أباكوسAbaeus)عظيماً فانتشرت الأرقام العربية التسعة يتقدمها الصفر في كل أنحا أوروبة ،وعند ما نقل الغرب عن العرب أرقامهم نقلوا معها طريقتهم في قراءة الأرقام من اليمين إلى اليسار ، الآحاد أولاً ثم العشرات ، وأشار الخوارزمي إلى وضع (صفرٍ) في محل الفراغ حتى لا يحدث لبس بين خانة الآحاد والعشرات في عمليات الجمع والطرح ، مثل : (38ـ 28 =10)8 ، وفي الغرب ترجم كتابي الخوارزمي (علم الحساب ، وحساب الجبر والمقابلة) إلى اللاتينية فعرف الغرب لأول مرة ؛ الأرقام العشرية بما فيها الصفر، وقد نظمها أحد الشعراء الالمان شعراً9 .
السماء التي تظللنا.هذا عنوان الكتاب الثالث ـ حسب تقسيم المؤلفة ـ وقد ذيلَّت العنوان بقول أبي محمد البتاني :(إن الإنسان ليصل عن طريق علم النجوم ، إلى برهان وحدة الله ومعرفة عظمته الهائلة ، وحكمته السامية ، وقوته الكبرى ، وكمال خلقه).
تحدث هذا الجزء عن الفلك وأهم علمائه إبان الدولة العباسية وخاصة إبان خلافة الرشيد والمأمون ، إذ صاغ العرب كل أسماء النجوم والكواكب ، حين تم ترجمة أعمال الفلكي (برخس) ودليله المنقح بقلم بطليموس ، الأمر الذي جعل لمعظم أسماء الكواكب الثابتة ـ فيما بعد ـ أسماء ذات مصدر عربي : كالغول ، والكور، والطير والذنب، وفم الحوث، ويشير المترجمان ـ في حاشية ذلك ـ أن الغربيين أخذوا عن العرب أسماء النجوم العربية، ويؤكد هذا الرأي وجود ما يقرب من (160) كلمة عربية فلكية يستعملها الغربيون في علم الهيئة حتى اليوم.10 ومن أشهر علما الفلك العرب موسى بن شاكر وأولاده : محمد موسى، وأحمد والحسن ، وكان المأمون قد أفسح لفلكييه داراً في أعلى ضاحية من بغداد ، بقرب باب الشماسية لرصد النجوم رصداً علميا دقيقاً ، وإجراء قياسات مثيرة للإعجاب ، كانت تقارن بغيرها في جنديسابور ، وبأخرى تجري بعد ثلاث سنوات في دار ثانية تقع على جبل قاسيون المطل على دمشق .
في عام 880م صنع الطبيب (عباس بن فرناس ) في اسبانية أول طائرة من القماش والريش ، ثم صعد بها مرتفعاً وترك نفسه للهواء يحمله ، فطار قليلاً ثم وقع ارضاً فتحطم ، وتحطم معه حلم الإنسانية قديماً ، وحلم “إيكاروس”11، بيد ان أبا الحسن بن الهيثم 965ـ 1039م كان قد دحض مزاعم “أقليدس وبطليموس” القاضية بأن العين ترسل أشعة إلى الأشياء التي تريد رؤيتها ، فقال: ” ليس هناك من أشعة تنطلق من العين لتحقيق النظر ، بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها “12، وهذا هو الثابت ، ولو كانت العين هي التي تَرْسلُ الأشعةَ بُغية الرؤية لأمكن للإنسان رؤية الأشياء في الظلام ، إلى جانب ما شُهر به في علم البصريات وخسوف القمر واستقاء ضوئها من الشمس .
أما في مجال الطب فقد كان أبو بكر الرازي أحد أعظم أطباء الإنسانية ، وقبل 600عام كان لكلية الطب في باريس أصغر مكتبة في العلم ، لا تحتوي سوى مؤلف واحد ، وهذا المؤلف كان لعربي كبير هو الرازي ، ويذكر أن ملك المسيحية الشهير ، لويس الحادي عشر ، أضطر لدفع أثني عشر ماركاً من الفضة ومئة تالر (Taler) من الذهب الخاص لقاء استعارة هذا الكتاب لينسخ له أطباؤه نسخة منه يرجعون إليها في مرضه وعائلته ، ويروى أنه عندما أراد السلطان عضد الدولة البويهي أن يبني مشفى جديداً حديثاً في مدينة بغداد أوكل إلى (الرازي) بالبحث عن أفضل مكان له. فأوصى الرازي مساعديه بتعليق قطع كبيرة من اللحم من مختلف الأنواع في كل أطراف بغداد ثم انتظر(24ساعة) وتخيَّر المكان الذي ظل فيه اللحم على أحسن حال. 13
1 ـ في مثاقفاتي مع القاضي عبدالوهاب سنين ، نبهني لقراءة هذا الكتاب فله خاص الشكر .
2 ـ يقصد به الشاعر الفارسي : شمس الدين حافظ الشيرازي .
33ـ أنظر ص9
4 ـ ص17، 20
5ـ انظر ص23
6 ـ انظر ص44ـ 46
7 ـ راجع ص50 ـ75
8 ـ وردت في الكتاب خطأً : 38ـ 28 =20 والأصح هو ما في المتن راجع ص78
9 ـ نص القصيدة في الكتاب ص 97ـ 98
1010 ـ راجع ص180
11 ـ انظر ص134
12 ـ ص148ـ149