إسلام أبو العز
تنظر واشنطن في الوقت المتبقي من عمر إدارة الرئيس باراك أوباما إلى خارطة التحديات والفرص السياسية في الشرق الأوسط بعين الحذر لمنهج بعض شركائها الإقليميين في المنطقة التي تشهد تقلبات كبرى منذ سنوات؛ بالطبع كانت السعودية وما لها من دور رئيسي فاعل في المنطقة على رأس هؤلاء المتخوف من تصرفاتهم العشوائية فيما يخص السياسة الخارجية، التي كانت بالنسبة للرياض تحدث وفق التكامل مع السياسة الخارجية الأميركية طيلة تاريخ العلاقة بين البلدين، إلا أن التباين الذي نشأ بين المملكة وواشنطن مع السنوات الأولى لإدارة أوباما جاء على أساس عزم إدارة الأخير على إنهاء الفوضى التي سببتها إدارة بوش، وما في ذلك من الحروب التي شنتها والانغماس السياسي والعسكري للولايات المتحدة في فوضى الشرق الأوسط، لتأتي أحداث “الربيع العربي” ليتفاقم هذا التباين إلى الخلاف العلني في ساحات سوريا ومصر والعراق وقبل ذلك وأكثر خطورة بالنسبة للمملكة هو استدارة إدارة أوباما ناحية تسوية سياسية لأحد أهم الملفات الحساسة في تاريخ المنطقة، وهو الملف النووي الإيراني، وهو ما ترجمته الرياض بأن المظلة السياسية والتكامل في المواقف والرؤى مع واشنطن قد ولى وربما إلى غير رجعة، لتبدأ المملكة منذ مطلع 2012م إلى انتهاج سياسة تحزيب إقليمي يخفف من وطأة عزم الإدارة الأميركية على تسوية الملف النووي وتبعاته السياسية والاقتصادية مع طهران، الخصم اللدود للمملكة التي تدير معه معركة انحدرت صخرتها إلى حد الصراع الطائفي، فأصبحت أدبيات السياسة والدبلوماسية السعودية لا تخلو من تصنيفات طائفية تعبر عن حدة الصراع السياسي بينها وبين إيران، لتصبح المملكة بحلول 2013م على تباين شاسع مع السياسيات الأميركية من هذه الزاوية، وتجلى هذا على سبيل المثال لا الحصر في موقف المملكة إبان حكم الملك السابق، عبد الله بن عبدالعزيز من الإطاحة بحكم جماعة الإخوان في مصر.
لكن التحولات الدراماتيكية سرعان ما تمكنت من المملكة، سواء الداخلية أو الخارجية؛ فبالنسبة للأولى كان الصراع –ولا يزال- داخل البيت السعودي على الحكم محرك لتوجهات المملكة الخارجية وخارطة تحالفاتها الإقليمية، فمثلاً بعدما كانت الرياض على خصومة مع تركيا وقطر منذ بداية “الربيع العربي” بدافع من تخوفها من استفحال نفوذ هذين البلدين على حسابها ودعمهما لصعود جماعة الإخوان إلى الحكم في مصر وتونس واليمن، وهو ما دفع الملك عبدالله إلى تعديل أولويات السياسية اللحظية للمملكة لأن يكون الصراع مع إيران يسير بنفس اتجاه محاولة حصار النفوذ الإخواني الصاعد، ولكن هذا تغير بعد وفاة عبدالله والتغيرات التي حدثت داخل البيت السعودي، لتعود البوصلة السعودية إلى سابق عهدها في معاداة إيران حصراً والعمل المشترك مع كل الأطراف الإقليمية على هذا الأساس بما فيها قطر وتركيا بل وحتى إسرائيل، وهو ما جعل شراكة المملكة مع دول مثل مصر تتعرض لاهتزازات ليست بالهينة خلال العام الماضي، الذي شنت فيه المملكة حرب على اليمن، وعملت على تخفيض سعر النفط بغية الإضرار بالاقتصاد الإيراني-الروسي، وإجبار الولايات المتحدة على إعادة النظر في سياساتها للطاقة بعيدة المدى التي سوف تعتمد على النفط الصخري الأميركي الذي كان قد بدأ بالفعل في منافسة النفط السعودي، وهو ما يعني للرياض استغناء الولايات المتحدة عنها كمصدر للنفط طالما كان محدد للسياسيات وطبيعة العلاقات بين البلدين.
ومع نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، ومع تورط المملكة في تداعيات سياساتها العشوائية الارتجالية المتراكمة، سواء الداخلية أو الخارجية، وتوقيع الاتفاق النووي وتنفيذه، وارتداد حرب سعر النفط على المملكة واقتصادها، وفشل التصعيد السياسي السعودي في اليمن وسوريا وتلويحها أخيراً بالتدخل البري في الأخيرة، أصبح من المعتاد أن تقوم الدوائر السياسية والبحثية في واشنطن بالتفكير في إجابة عن أسئلة من نوع: ماذا لو انهارت المملكة جراء سياستها الخاطئة وأثر ذلك على السياسة الأميركية؟ أو ما هي الفائدة التي تقدمها الرياض لواشنطن في سياسة الأخيرة أمام الكُلفة عالية الثمن السياسي والاقتصادي لتصرفات المملكة الطائشة والتي تعيق سيناريوهات التهدئة التي تريد إدارة أوباما تثبيتها في المنطقة قبل الرحيل عن البيت الأبيض.
في هذا السياق نشرت مجلة “ذا أتلانتك” الأميركية تقريراً مشترك للباحث المختص بشئون الشرق الأوسط، أليكس دي وول، والمستشارة السابقة لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، سارة شايز. التقرير عنُون بـ”الاستعداد لانهيار السعودية” جاء في مستهلة تقييم لتاريخ العلاقات بين واشنطن والرياض الممتد لأكثر من خمسة عقود، ومآلات السياسة السعودية في الآونة الأخيرة التي أوصلت المملكة إلى حافة الانهيار حسب رأي كاتبي التقرير، الذي عللوا ما أسموه بـ”المأزق الاستراتيجي” للسياسية السعودية بنهج حكامها الأخير الدائب على دفع الأمور إلى حدودها القصوى، سواء كان ذلك في صراعها مع إيران، أو الأزمة السورية وتحديها مع تركيا لروسيا، أو حتى فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية؛ وذلك كله وسط معضلات دائمة تعاني منها المملكة وفي وقت حساس لم تمر به الرياض ولا المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى.
وتطرق تقرير “ذا أتلانتك” إلى النهج الذي يدير به آل سعود أمور الحكم والسياسة في الداخل، وارتباط هذا بسياسيتهم الخارجية، مشبه إياهم بـ”المافيا” واستمرار رهنهم للأمور كما ولو أن السعودية “مشروع تجاري فاسد وغير مستقر (..) فالسعودية لا يمكن اعتبارها دولة على الإطلاق، وأنها بمثابة نموذج يجمع ما بين المشروع السياسي المرن والذكي بالنسبة لواشنطن ولكنه غير دائم ولا يعول عليه على المدى البعيد، وبين المافياوية التي تتوغل رأسياً وأفقياً في جنبات المملكة والمنطقة”. وأن هذا النموذج لا يمكن له الاستمرار بأي حال من الأحوال وأن واشنطن بدأت بالفعل في الإعداد لمرحلة ما بعد إنهيار السعودية.
وهنا رأت المجلة في تقريرها أن شكل الحكم في المملكة يكاد يطابق إدارة الأعمال الفاسدة العائلية، مشبهة الملك برئيس مجلس إدارة هذه الاعمال، وتحويله لعائدات النفط إلى هبات ورشاوي سياسية واجتماعية في الداخل والخارج نظير الولاء السياسي، سواء كان ذلك عن طريق الهبات المالية والامتيازات التجارية لأفراد العائلة المالكة، أو قليل من الرشاوى الاجتماعية وفرص العمل والتعليم وغيرها للعامة.
وفي هذا السياق رأى التقرير أنه في ظل التعثر الاقتصادي التي ورطت فيه الرياض نفسها فإن الحفاظ على الشكل السابق من العلاقات الحاكمة في السياسة السعودية سيكون صعباً خاصة وأن الصراع السياسي الداخلي والخارجي المتورط فيه الأمراء النافذين في السعودية سيعرض “ثمن الولاء السياسي” للارتفاع، خاصة في ظل الصراع السياسي بين أجنحة البيت السعودي الذي لم يحسمه صعود الملك سلمان ومنظومته إلى سدة الحكم، بل زاد الصراع تعقيداً بدافع من تفرد نجل الملك بالقرارات المصيرية داخلياً وخارجياً واستعجاله الوصول إلى عرش المملكة متجاوزاً ولي العهد، محمد بن نايف، وهو ما أثار عاصفة استياء داخل البيت السعودي وصلت أصدائها للخارج.
وأنتقد التقرير السياسة الأميركية تجاه المملكة التي حكمتها معادلة طرفيها النفط المضمون مقابل المظلة السياسية والأمنية، وأن هذه المعادلة تجاهلت أن السعودية بلد مصدرة للتطرف الوهابي الذي يشكل الايدولوجيا المحركة للتنظيمات الإرهابية بداية من القاعدة وحتى داعش، بالإضافة إلى غض واشنطن الطرف عن ممارسات الرياض القمعية والاستبدادية على المستوى الداخلي، سواء في ما يتعلق بالحريات الشخصية والحقوق السياسية والاجتماعية، أو القهر الذي يمارسه آل سعود على الأقليات العرقية والدينية، وذلك بالتوازي مع المهادنة التي يتقنها الساسة في الرياض مع الجهاديين طالما ظلوا خارج المملكة وبعيداً عن التعرض لنظام الحكم.
ورصد تقرير المجلة الأميركية في ختامه ثلاث سيناريوهات لانهيار المملكة، الأول هو سيناريو الانفجار من الداخل بواقع الصراع بين أجنحة الأسرة المالكة وتوازنات القوى ما بينها والتي تقترب من الصفرية، والثاني الانتفاضة الشعبية جراء القمع الاجتماعي والأمني الذي تمارسه السلطات هناك، أو غلبة التمرد الجهادي على صور الاحتجاج على آل سعود، وأخيراً التورط في حرب خارجية تنهار بسببها منظومة الحكم في المملكة، والذي من رأي كاتبي التقرير سيكون درامياً ودموياً وستكون له تداعياته على مستقبل المنطقة، ولهذا يؤكد التقرير في ختامه أن على السياسة الأميركية النظر إلى السيناريوهات الثلاثة بعين الاعتبار والتوقف عما أسموه “التفكير الآلي” الذي دأبت واشنطن في انتهاجه مع علاقتها بالسعودية والذي أوصل الأمور إلى حد حتمية الانهيار الذي لم تعد واشنطن العدة له.