خالد في أربعينية رحيله أعز الناس..لا يموت
عبدالحليم سيف
لن أنسى ما حييت الخبر الصاعق لذاك الاثنين ؛الذي يوافق الرابع من يناير 2016، يومها صُدمت وغيري برحيل الأخ والصديق والزميل والإنسان الجميل خالد سيف محمد الصوفي المعروف بـــ”خالد الصوفي ” في مستشفى النزهة الدولي في القاهرة، وهو في ذروة تألقه وعطائه وتوهجه ؛رغم محنة المرض التي لازمته منذ أربع سنوات ، جراء
عنف طاله لمشاركته في “ثورة 11فبرير 2011م “.
مضت ساعات تينك اليوم طويلة بدت لي وكأنها دهراً؛ حتى بلغ بي الحزن حدا جعلني أستعرض أمامي شريط الذكريات ؛ الذي رحت أتأمله بصمت وسكون وبوجع وحسرة ؛ كما لو كان تحت لساني قطعة من حديد مليئة بالمرارة ؛ مشاعر اختلطت فيها الحزن بالأسى وشيء من الإحباط ؛ تنهدت من الأعماق إلى حد شعرت بالصوت الخارج من الحنجرة المصابة بالسعال بما يشبه الأنين ، على ما في اللحظات القاسية من مشاهد وصور تتدفق من الذاكرة منها صورة أول لقاء تعرفت على الصديق خالد في صنعاء بعد تخرجه من قسم الإعلام بجامعة صنعاء عام 1995 ، وأصبح معيداً في ذات القسم ، ثم أطياف لعشرات اللقاءات خلال سفرياتي للقاهرة ، وذلك أثناء تواجده في مصر للدراسة والعلاج بين عامي 1998 – 2015م ..مروراً بعديد مشاهد من لقاءات جمعتني به مع أصدقاء مشتركين في صنعاء بعد عودته من القاهرة ، ولم ينقطع تواصلنا حتى الأيام الأخيرة من رحيله .
اكتشفتٌ لحظات استرجاع تلكم الصور أن لدي رصيداً من ذكريات معه منها الحلو ومنها المر.وأدركت أن المشاهد الحزينة هي الغالبة في ذاك اليوم وفيما بعده ،كما رأيتها في عيون ووجوه الزملاء والأصدقاء وغيرهم أيام العزاء ، لأن رحيل الصديق خالد جاء مبكراً بعمر يناهز (46 عاماً) وغيبه الموت عنا في زمن الحزن الوطني العام ،سيما وأن سنة 2015م لم تكن رحيمة بنا نحن الصحافيين والأهل والشعب والوطن كله ؛ بسبب ويلات “الحرب” ونتائجها الكارثية التي ظلت تؤرق الفقيد حتى لحظات حياته الأخيرة.
في هذا الإطار المتشح بالسواد والمثقل بالألم، مر رحيله بحسرة ، وكانت ذكرى أربعينية رحيله يوم (12- 2- 2016م) لتذكرنا بموت واحد من الذين نُحِبُهمْ ، وممن يأخذون معهم أحلامهم وتطلعاتهم وهمومهم المرتبطة أصلاً بحياة شعبهم ووطنهم ، يغيبون بأجسادهم بيد أنهم يتركون لنا أجمل مافيهم من قيم أصيلة ، تجعلنا نتمسك بخيوط الأمل والإيمان والصبر والسلوان ونُردد قول الله عز وجل : ” إنا لله وإنا اليه راجعون “.
وكطبيعة البشر ، نبكي محترقين بالفقد يوم الرحيل ؛ وأثناء حضور العزاء ، وبعد شهر أو أربعين يوماً أو حتى سنة ؛ نمضي في حياتنا الصعبة والقاسية ، لكأنما فقدنا ذاكرتنا ؛ بل ونسينا بُعيد مُواراة مبدعينا ومن نحب التراب.
لكن وراء هذا الشعور الخادع ؛ وخلف هذه الملامح الصلبة التي تُغطي وجوهنا ، تَسْكنُ الذكريات حنيناً مشتعلاً .
إذن نحن لا ننسى من نعتز بصداقتهم ، ولا بمقدورنا أن نشطبهم من صفحات قلوبنا أو أن نمحوا أسمائهم من ذاكرة عقولنا وقوائم هواتفنا المحمولة ،حتى رسائلهم تبقي محفوظة فيها.
مثل خالد الصوفي مازال رنين صوته يتردد في الآذان مخاطباً كل من يتصل به هاتفياً : ” أينك يا حبوب ” ، ” حياك الله يا حبيب” ، ” وحشتنا ” ، ويختتم المكالمة بالدعاء: ” في أمان الله ” .. ” الله يوفقك..وربنا معك ” ، وغيرها من عبارات المحبة ؛ لأن الصوفي خالد ببساطة جزء حي من ذاكرتنا الإنسانية أولاً ؛ والمهنية والصحفية ثانياً ، والأكاديمية والبحث العلمي ثالثاً، و قبل كل شيء هو كتلة من الحنان تجسدت فيه إنسانية الإنسان ، الصفة الأخيرة جعلت منه ملاذاً وعنواناً لكل من ليس له عنوان في القاهرة من المرضى والمسافرين الذين كان يقدم لهم المساعدة دون مّنٍ أو ادعاء وبصمت .. وقد كتبت وتحدثت عن هذا بدون تردد أثناء حياته وتحديداً بعد عودتي من القاهرة في نهاية يناير 2015م .
وما أكثر ما يمكن أن يقال اليوم ويكتب غداً عن خالد الصوفي ؛ وما أكبر “الحيرة” التي نقع فيها نحن الذين عرفناه وعايشناه وعملنا معه عندما نريد أن نتحدث عنه ، فنجد أمامنا نموذجاً مثالياً للإنسان الشريف والعزيز في المجتمع ، أحترم نفسه فاحترمه وقدره الآخرون ، كان محرراً ورئيساً للتحرير وصحافياً فذاً ملتزماً بمعايير المهنة متفاعلاً مع أوجاع الناس ، وقضايا الوطن ، وكان – أيضاً – مثالاً للطهارة والنقاء والإيثار والتسامح وحب تقديم المعرفة ومساعدة من يطلب منه من زملائه وتلامذته رأياً أو نصيحة ،كما أخلص لعمله الأكاديمي وأدى رسالته كأستاذٍ في العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام بجامعة صنعاء على أكمل وجه .
وكان خالد من الشخصيات التي أجمع عليها كل من ارتبط بعلاقة معه من زملائه الأكاديميين والصحافيين وغيرهم من الساسة والأدباء والبرلمانيين بكافة اتجاهاتهم الذين لطالما ترددوا عليه في منزله بصنعاء أو في شقته في القاهرة ، لأنهم رأوا فيه النموذج الراقي للأخلاق العالية والسلوك المتحضر والشجاعة في قول الحق بأرقى الأساليب واتساع الثقافة.
ولعل هذا ما تجلى في ذاك الحضورالكبير أيام العزاء في صالتي “الطيف” و “الجامعة” يومي الأربعاء والخميس السادس والسابع من يناير الماضي رغم الظروف الأمنية والأجواء الخطرة التي يعرفها الجميع ، كما تجسد ذلك الشعور في سيل الكلمات التي فاضت بها صفحات ” الفيس بوك ” ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.
ومن بين سمات الدكتور خالد الصوفي الجميلة ابتسامته، فلك أن تستعيد صورته في ذاكرتك أو على صفحات “الفيس بوك ” أو في إرشيفك الشخصي سواءً في لقطات منفردة أو تذكارية أو مع أصدقائه ، تسطيع أن ترى على شفتيه إشراقة ساحرة .. ابتسامه لا صوت لها حتى في أحلك الظروف وأقساها تشع بالأمل والتفاؤل ، و تحدثك عن بساطة الرجل وحبه للأخرين.
ويطول الحديث عن الدكتور خالد الصوفي ..
لقد كان أكثر ما يشدني إلى هذا الصديق النبيل روح الجلد والمثابرة وهو يخوض معركة مع المرض وأخرى في مجال الشأن العام ، كان لا يكل من الحديث عن ضرورة قيام الدولة المدنية الحديثة والمعاصرة لكل اليمنيين دون إقصاء أو تهميش لأحد.. وكذا ” التغيير” الحقيقي الذي طال انتظاره ..تغيير يعيد إلى اليمن الأرض والإنسان كل شيء جميل ورائع افتقدناه ؛ تغيير يعيد إلى النفوس التي أضناها وانهكتها وفتتها الصراعات والحروب ؛ تغيير يٌعلي من قيمة الشرف والعزة والكرامة والعدالة والمساواة .. تغيير يعيد اليمن إلى حضن أهلها الفقراء والمعذبين ، كما يريد الغالبية العظمى من الشعب اليمني للجميع وليس ” لقلة ” محدودة احتكرت السلطة والثروة ، وهذه لطالما عبر عنها في كتابته في الصحف والمنشورات والبوستات على صفحته في الفيس بوك التي أخذ منها منبراً للتواصل والحوار مع مختلف الاطياف والأعمار، حتى بلغ عدد أصدقائه في صفحته ( 4942 ) و (1126) متابعاً له.
خالد الصوفي.. صاحب “نيو اديز” تجربة شابة وقصيرة لكنها غنية ، واسم مضيء وشخصية ناضجة ومنتجة ومتفتحة ومرحة .. كان كاسمه وسيظل خــــــالداً في الذاكرة.
فوداعــــــــــــــــــــاً يا أعــــــــــــــــــــز الناس كما عرفتك .