حامد الفقيه
عصرا.. كان الأطفال يفرقعون ألعابا نارية في مكان الجلوس ويغنون (سنة حلوة يا جميل ) .. ابتهاجا بعيد ميلاد أخيهم الخامس..
بينما كان جالس يدير مفتاح المذياع بعصبية يتنقل بين قنوات إذاعية وهو العارف بمواعيد النشرات والفوارق بين كل محطة وأخرى. وما أن تجود الكهرباء العمومية بوميض مسروق في قبضة العتمة حتى يلصق عينيه بالتلفاز.. قصف هنا , دمار هناك وموت بالمجان .. حد أن القطط والكلاب تأكل من جثث القتلى. بهستريا تجعل من عنقه محور ارتكاز لا يكاد يتزن, ينتقل مفجوعا بين أسماء محافظات الوطن: عدن, تعز, الضالع, صنعاء, إب, البيضاء, شبوة, مأرب, ذمار, الحديدة, صعدة, لحج, حجة ويصعق بالمحافظة الأخيرة والمذيع العربي يتلكأ باسمها فينطقها (حضر موت) ويفرق بين الكلمة المركبة ويحرك أحرفها.. الكل تنوح أمام ناظريه. يخال كل محافظات وطنه أمهات نائحات.. منهن من تنوح بنيها وأخرى زوجها وحفيدها وراعي قوتها.. لم يفرق الموت بين طفل هشة عظامه لا تقوى على كف الموت المتصيدة ولا فتاة أو شاب..
تنطفئ الكهرباء فيغرق في العتمة المجالية والنفسية والواقعية. يخرج من غرفة التلفاز إلى غرفة نومه عبر الصالة التي كان يتخبط بها في عتمة مستميتة, فيجد أيادي تتشبث بقدميه الواهنتين.. أيادي لجرحى مازالوا يطمعون في حياة, ويغرق إلى ركبتيه في دماء القتلى الغارقين في سؤال موتهم الذي لم يُخبروه ..
فقد تماسكه تماما وهو يسمع خشخشة عظام جمجمة طفل لم يكمل حوله الأول تحت قدميه.. فاهتز البيت جرّاء صرخته المُرْعبة؛ فغابت أهازيج الأطفال المبتهجة بعيد ميلاد أخيهم يزاحم أصوات الموت المتناسلة..
لم يكد يبارح الصالة الغارقة بالموتى والجرحى الهاربين من موت يترصدهم، ها هو اللحظة يفرغ من حصد الروح المجاورة, وقد رأوا موتى بجوارهم كانوا قبل قليل يئنون جرحى .
تلمس أخيرا باب غرفة النوم النجاة وقد خيم سكون مخيف على الأطفال المحتفين, والأب اللاعق عرق وماء النجاة ما تزال الوشوشة المتداخلة تعصف بداخله.
المذياع يحصي عدد قتلى وجرحى ومشردين .. والتلفاز يدقق في لحظات الموتى قبل صرختهم الأخيرة, ويعارك مع المنتشلين أوصالا متقطعة لضحايا منتشلين عانقوا الموت وهم نائمون . وآخرون في خور مكسر وجدت فيهم النار فريستها السهلة فلم تنز من أجسادهم دهون الراحة والنعيم فتكبح جماح لهيبها ..
فقط كانت لحظة أن ضاعت من أذنيه تداخلات الوشوشة تلك، وقد طردها صوت انفجار في مجلس الأطفال الذي كان مبتهجا قبل لحظات.. يصعق صارخا ومولولا بهستيريا طاغية. ومازال يتخطى عتبة غرفة النوم يرجع فارا ومرتطما بباب الخروج نافذا بجلده إلى الشارع وقد صرخ بداخله صوت الحياة..
ويصرخ في الشارع :
– صاروخ, قذيفة , قصف.. أولادي.. زوجتي.. موووت, الصالة.. ويفرق بيديه أيادي أطفاله الخمسة وهم يتشبثون بقدميه.. يتجمهر الناس حوله ويحوقلون بانتظار أدوارهم في الصراخ في الشوارع .
يدخل بعضا من المتجمهرين إلى منزله فيجدون الأطفال الخمسة يخرجون إلى مجلس عيد الميلاد يبكون بحزن على بالوانتهم الخمس التي قررت أن تنفجر دفعة واحدة ..
Next Post