م. سامي أحمد محب الدين *
مصطلح الاستشعار عن بعد يستخدم للإشارة إلى فن أو مهارة الحصول على المعلومات عن الأهداف بواسطة استخدام مجسات Sensors بعيدة عن ذلك الجسم دون الاتصال المباشر معها، اعتمادا على الموجات الكهرومغناطيسية أو الانعكاسات الحرارية من الأهداف الأرضية ومن ثم تحليل ومعالجة هذه البيانات للحصول على المعلومات والاستفادة منها.
اليمن تعيش أسوأ كارثة انسانية يشهدها القرن الواحد والعشرون، عدوان أكثر من 40 ألف غارة جوية على اليمن، هي أكبر عدد غارات جوية في بلد واحد منذ الحرب العالمية الثانية (حسب تقرير صحيفة الجارديان البريطانية)، حيث وصلنا للشهر الثامن ولازالت المعاناة مستمرة من استباحة كل شيئ (الأرض والانسان والتاريخ)، ومنها ماحصل من القصف الجوي ليل يوم 26 أكتوبر 2015م على مستشفى حيدان في صعدة شمال اليمن والذي تديره منظمة أطباء بلا حدود ما أدى إلى تدميره ووقوع ضحايا وإصابات، وهو المرفق الصحي الوحيد في بلدة حيدان. ولقد أدانت معظم المنظمات الدولية هذه الجريمة، (الأمم المتحدة) الأمانة العامة ومنظمات إنسانية وحقوقية دولية وشددت على ضرورة التحقيق والمساءلة، وقالت منظمة العفو الدولية إنها ترقى إلى “جريمة حرب” وقال المدير التنفيذي لليونيسف إن “عددا أكبر من الأطفال في اليمن قد يموت جراء نقص الأدوية والرعاية الصحية أكثر من عدد الذين يقتلون جراء الرصاص والقنابل”
وكل مايجري يتم توثيقه وتقييم آثاره الحالية والمستقبلية من قبل المهتمين في العالم عبر عدة طرق ومن اهمها الإستشعار عن بُعد فمثلا هناك معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) الذي أنشئ في عام 1965م والذي يعمل على وضع التصاميم والدراسات والأبحاث في عدة مجالات منها الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والسلام والامن الدوليين والمساعدة في أعمال التحقيق التي تقوم بها منظمة الأمم المتحدة، وفي عام 2001م انشئ برنامج تشغيل تطبيقات الأقمار الصناعية (UNOSAT) التابع للأمم المتحدة لتطوير الحلول التطبيقية والتدريب لجعل منظمة الأمم المتحدة والدول الأعضاء تستفيد من تقنية علوم الفضاء في مجالات الأمن العالمي، والإغاثة الانسانية، الوقاية من الكوارث والتخطيط الإقليمي، وكل المجالات ذات العلاقة وقد سجلوا العديد من الدراسات والتحليلات التي تحدث على مستوى العالم منها ماحصل في أحداث منطقة البلقان، أو جنوب لبنان أو العدوان الإسرائيلي على غزة وماسببه من دمار وكوارث، وكذلك مايحصل في سوريا منذ عام 2011م أو ماحصل في ليبيا وجنوب السودان، وحاليا يتم مراقبة وتسجيل التدمير الذي يحصل في اليمن وقد قاموا برصد العديد من الحوادث وتم نشر عدد منها مع ذكر ضرورة اعمال (التحقق الأرضي).
علم الاستشعار عن بعد
ويعتبر علم الاستشعار عن بعد باستخدام الأقمار الصناعية من أفضل وسائل الاستشعار عن بعد وذلك للدّقة العالية التي توفرها للمستخدم وسهولة تصوير أصعب الأماكن على سطح الأرض التي لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بالوسائل التقليدية وذلك نظرا للارتفاع العالي لهذه الأقمار الصناعية. وتفيد في تسجيل بيانات لا يمكن للعين المجردة أن تراها، فالصورة الجوية يمكنها أن تعطي معلومات عن الاستشعار في نطاق طيفي أشمل إضافة إلى الأشعة المرئية ، الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. كما أن هذا التسجيل يكون دائما للظاهرات الجغرافية بحيث يمكن دراستها في أي وقت في المعمل بدلا من الحقل مما يسمح بإجراء المقارنات الزمنية بين مجموعة من الصور أخذت في أوقات مختلفة لنفس المكان. وأسهمت وسائل الاستشعار عن بعد كذلك في مراقبة التوزيع المكاني للظواهر الأرضية، مثل مراقبة التصحر وحصر الموارد الطبيعية، مراقبة حرائق الغابات على مساحة واسعة ومن موقع مراقبة مرتفع في إطار لا يمكن مشاهدته بنفس الوضوح من خلال المراقبة الأرضية. كما أفادت وسائل الاستشعار عن بعد في التنبؤ بالمحاصيل ومراقبة الآفات الزراعية. والتنبؤ بالموارد المائية ، والأرصاد الجوية، واستكشاف المناطق الأثرية بالإضافة إلى الدراسات التطبيقية في فروع الجغرافيا المختلفة مثل الجيومورفولوجيا والمناخ والزراعة ودراسات المدن والسكان وغيرها، وبواسطة وسائل الاستشعار عن بعد يمكن إجراء قياسات سريعة ودقيقة إلى حد كبير للمسافات والمساحات والاتجاهات والارتفاعات والانحدارات.
لذا فإن هذا العلم قد تقدم بشكل هائل في السنوات الأخيرة، وأصبح يتضمن استخدام أجهزة وطرق تمثل أحدث ما توصل إليه العلم الحديث. وقد استفادت علوم كثيرة من هذا التقدم، ومن أنواع أجهزة الاستشعار عن بعد آلة التصوير الجوي الفوتوغرافي، وجهاز الماسح الجوي متعدد الأطياف، وجهاز الراديوميتر، وجهاز الرادار وغيرها من الأجهزة سواء التي تقيس بالقرب من سطح الأرض أو علي ارتفاع متوسط كالطائرات أو من ارتفاع كبير كالأقمار الصناعية.
وسنشير هنا إلى موضوعين تم التطرق لهما ونشر مرئيات فضائية وخرائط تبين ذلك:
أولا: خرائط المرئيات الفضائية ذات الدقة المكانية العالية:
تم الاعتماد على مجموعة من المرئيات الفضائية الحديثة ذات الدقة المكانية العالية التي تصل مابين (50 – 30سم) ونشر بعض النتائج من التحاليل لتقييم آثار التدمير في كل من (صنعاء وصعدة وعدن وتعز) بشكل أولي (يحتاج للتحقق الأرضي). وأظهروا النتائج لما تم من تدمير كمايلي:
أ. مدينة صعدة: لإظهار مواقع الدمار في مدينة صعدة تم استخدام مرئيات الأقمار الصناعية (WorldView-3 ، WorldView-2، Pleiades) في تواريخ مختلفة، وتم رصد إجمالي 1171 مبنى متأثر نتيجة القصف الجوي، منها تقريبا 273 مبنى مدمر كليا، 271 تدمير حاد، و 627 تدمير جزئي، وحوالي 35 اماكن حفر للقصف في المدينة، وإجمالي أربعة أماكن طبية (مستشفى الرحمة التخصصي – المستشفى الجمهوري – مستشفى ابن سيناء النموذجي – مستشفى السلام) ربما تأثرت بتدمير المباني المحيطة بهذه المستشفيات والتي تبعد حوالي 100 متر عنها. وأظهرت النتائج أيضا الدمار الحاصل في مطار صعدة حيث ظهرت خمس مباني تدمرت وثلاث حفر على سطح مدرج المطار. وكذلك تم عرض مباني تم تدميرها بشكل كلي تظهر بوضوح في مدينة صعدة القديمة بالقرب من جامع الامام الهادي، وتأثر جزء من السور التاريخي لمدينة صعدة القديمة، وتدمير جزء من سوق مدينة صعدة. وكذلك مرئية تبين التدمير الذي طال العديد من البنى التحتية مثل (محطة بترول – و محطة كهرباء صعدة الواقعة في أطراف المدينة بالقرب من المطار – مبنى المحافظة ومكتب البريد المركزي في المحافظة).
ب. مدينة عدن: تم عمل تحاليل مشابهة لمدينة صعدة بواسطة مرئيات القمر الصناعي (Pleiades) أخذت بالتواريخ (15 أبريل – 10 مايو 2015) أظهرت في شبه جزيرة معاشيق وجود ثلاثة مباني مدمرة وواحد منها مدمر بشكل واضح. وكذلك الحال في مطار عدن علامات تدمير في مهبط الطائرات، وتدمير حاد لمبنى وتحطم للسقف في الجزء الجنوبي من المطار. وأظهرت المرئيات ايضا الدمار والتحطيم في الميناء الصناعي بعدن الواقعة شمال المعلا، عدد اثنين من المباني تعرضت للدمار وأربعة مباني تعرضت لتدمير جزئي، وتم التعرف على تدمير مركز للشرطة في وسط المدينة، وتدمير لنادي ضباط الشرطة الواقع في جزيرة العمال.
جـ. أمانة العاصمة (صنعاء): تم دراسة وتحليل مرئيات الأقمار الصناعية (WorldView-3 ، WorldView-2، Pleiades) في تواريخ مختلفة، وتم التعرف على إجمالي 625 مبنى متأثر، منها 283 تبينت في المرئيات ذات التواريخ (10 و 23 سبتمبر 2015) بها عدد 54 تدمرت بشكل نهائي، و 94 تدمير حاد، و 135 تدمير جزئي، وقبلها تم تحليل مرئية بتاريخ (15 مايو 2015) تم تحديد 369 مبنى متأثر، منها تقريبا 60 تدمرت، و 72 تدمير حاد و 237 تدمير جزئي، بالإضافة إلى 8 بقع حفر، مع 16 موقع مهم به كميات من الركام. وإجمالي 7 مواقع للخدمات الطبية (مستشفى الشرطة – مستشفى المتوكل – عيادة ابن الهيثم الصحية – مستشفى الكويت التعليمي – مستشفى القاهرة – مستشفى الصحاب – عيادة الملكة أروى الصحية) تبعد حوالي 100متر من المباني المحطمة والمدمرة واحتمالية اصابتها بأضرار. وكذلك الحال بالنسبة لمطار صنعاء تم التعرف على إجمالي 70 تاثير على مباني وعربات النقل، منها تقريبا 18 تدمرت نهائيا، 32 دمار حاد، 20 دمار جزئي، بالإضافة إلى 32 أثار الحفر. وتم التعرف على مكان الاسعافات الطبية في حدود 500 متر من أماكن الحفر.
د. مدينة تعز: من تحليل مرئيتي القمر الصناعي (WorldView-3) التي أخذت لمدينة تعز بالتواريخ (12 ديسمبر 2014 و26 يونيو 2015م) تم انتاج خارطة توضح تقييم آثار الدمار وتم التعرف على أجمالي 328 مبنى مدمر،منها 54 تدمير نهائي، 66 تدمير حاد، 156 تدمير جزئي، 52 احتمالية تعرضها للدمار. وعدد 410 من المناطق تحتوي على الركام وإجمالي 11 مركز صحي تعرض للدمار حيث تقع ضمن مسافة 100 متر من المباني المدمرة.
ثانيا: خرائط الضوء المرئي في الليل:
تم انتاج بعض الخرائط التي تظهر توزع الضوء المرئي في الليل على الجزء الغربي من اليمن باستخدام المرئيات الفضائية المأخوذة في نطاق الأشعة تحت الحمراء (VIIR) وقاموا بعمل تحليل أو لي ومقارنة بين الأيام التي تظهر المناطق المضاءة بالتيار الكهربائي في تاريخ 20 مارس 2015 (أي قبل العمليات العسكرية) وبين الأيام التي انقطع فيها التيار الكهربائي على أغلب محافظات اليمن وتبين الإضاءة شدة الانفجارات الناتجة من الصواريخ وقصف الطائرات أو تظهر الأماكن التي انقطع عنها خدمة الكهرباء على عدد من مناطق واسعة من صنعاء وعدن وعدد من المدن كصعدة وإب وذمار بالتواريخ 13 ابريل – 25 ابريل – 12 مايو – 21 يوليو من العام 2015م، وتم الاعتماد على معطيات القمر الصناعي سوامي (SUOMI Day/Night band) وهو قمر صناعي أطلقته وكالة ناسا في اكتوبر 2011م يدور حول الارض 14 مرة في اليوم وذات دقة مكانية منخفضة، وبه مستشعرات متعددة تسمى (حزمة المرئيات الراديومترية تحت الحمراء المرئية) وتقيس الأشعة المنبعثة من الأرض في النطاقين المرئي وتحت الحمراء، وسمحت هذه المرئيات لوكالة ناسا عمل خرائط للوهج الناتج من الحرارة الصادرة من سطح الأرض نتيجة عوامل طبيعية أو نشاط الانسان. ومن اكتوبر عام 2012م بدأت تحصل على مرئيات ليلية خالية من السحب في النطاق المرئي وتحت الحمراء، تمكن المستخدم من استغلال أكثر لفترة الليل بدراسة انبعاثات الضوء المرئي (أضواء المدينة، والبرق، والشفق، والحرائق، ومشاعل الغاز، أساطيل الصيد، وتدفقات الحمم البركانية) كذلك الغيوم والسمات الأرضية (الجليد البحري والغطاء الثلجي) وبدأ علماء البيئة باستخدام هذه المرئيات لتحديد مقدار التلوث من الغازات المنبعثة من مواقع استخراج النفط.
ويتضح لنا مما سبق الدمار الكبير والجرائم التي تحدث في اليمن ويمكن تحديد حجم انتشارها بعين ثاقبة عبر تقنية الإستشعار عن بُعد ويعمل المركز اليمني للإستشعار عن بُعد ونظم المعلومات الجغرافية التابع لوزراة الإتصالات وتقنية المعلومات حاليا على دراسة تقييم آثار الدمار الذي يحصل بالإمكانيات المتوفرة، ونناشد ونطلب من مراكز الإستشعار عن بُعد ووكالات علوم الفضاء الأقليمية والدولية وبرنامج تشغيل تطبيقات الأقمار الصناعية (UNOSAT) التابع لمنظمة الأمم المتحدة توفير الإمكانيات اللازمة من أجهزة أو مرئيات فضائية وخلق قنوات تواصل مع المركز اليمني للإستشعار عن بُعد لعمل أبحاث ودراسات تعود بالنفع على المنطقة وتسهم في عمليات إعادة البناء والتنمية في الجمهورية اليمنية.
** ملاحظة مهمة: الخرائط والصور والنتائج المذكورة في المقالة، قام الكاتب بترجمتها من تقارير أولية وخرائط تم دراستها واعدادها من قبل معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) وبرنامج تشغيل تطبيقات الأقمار الصناعية (UNOSAT) كتحاليل أولية يلزمها (أعمال التحقق الأرضي). وللمزيد من المعلومات والتقارير عن اليمن أو عن دراسات لبلدان مختلفة كسوريا وليبيا وغيرها باللغة الإنكليزية يمكن زيارة مواقعهم الإلكترونية.
* مدير إدارة الإستشعار عن بُعد بالمركز اليمني للإستشعار عن بُعد ونظم المعلومات الجغرافية.
samoh2010@gmail.com