حين تتوارى الأسئلة؟!
لا إنذار ولا صافرات, ولا ملاجئ يهرب الناس إليها عند سماعهم هدير طائرات التحالف الذي يستهدف الطفل اليمني .. محركات الطائرات وأصوات انفجارات قنابل وصواريخها هي صفارات الإنذار, هذا هو الوضع في اليمن
لا أطقم دفاع مدني مدربة وكافية ولا مسعفين ذوي خبرة يهرعون إلى أماكن القصف, لا سيارات اطفاء ولا مضادات أرضية تهابها الطائرات الحديثة التي تنتقي الأرواح بأريحية مطلقة.
لا أماكن بديلة لمن ينزحون من بيوتهم أو قراهم أو مدنهم جاهزة ولا سلطات رسمية تعد خطط عمل لمواجهة ما يترتب على القصف المستمر ليلاً ونهاراً.
لا برامج تدريب ولا مراكز واختصاصيين يعتنون بمن تعرض للرعب والصدمات القاسية, ولا حتى اختصاصيين يزورون ويتفقون ويعالجون أو يعطون النصائح عن كيفية التعامل مع حالات الانهيارات العصابية أو الفزع الشديد للأطفال؟؟؟!
لا خطط إجلاء ولا معرفة بالأماكن التي ستستهدف, لا عدو كبقية الأعداء ولا محارب كبقية المحاربين يمكن أن تتنبأ بما قد يقدم عليه فتستعد بخطط وإجراءات وقائية لتخفيف عدد الضحايا والإصابات, فقط مع كل هذا هناك الانتظار والتسليم وتوكيد النفس على القبول بما قد يحدث لك ولعائلتك .. هذا هو الحاصل في اليمن.
كوادرنا المؤهلة ومن أنفق على تعليمهم الشعب اليمني مليارات من الدولارات خذلونا .. بل إن بعضهم يعملون مع دول العدوان, والبعض الآخر معتكف لا يريد العمل ولكنه يريد الراتب.
اختلت القيم وسقطت الأقنعة, ودفنت المبادئ وذبح قسم الشرف المهني, فحتى أولئك الذين يعملون في المجالات الإنسانية – أطباء وممرضين واختصاصيين اجتماعيين خذلونا وكشفوا عن نفسيات مريضة أنانية لا تبالي بحياة أو حالة إخوانهم من أبناء اليمن الذين دفعوا من أقوات أطفالهم نفقات دراستهم وتأهيلهم داخل وخارج الوطن, ما هذا النكران وما هذه المصيبة التي ابتلينا بها في بعض أبنائنا؟! هذا هو الحاصل في اليمن!
أما بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في المحافظات الحدودية أو التي تشهد مواجهات مباشرة فإن الأمر أقسى وأمر .. حتى نحن أبناء وطنهم لا نعرف إلا النزر اليسير عن ما يحدث لهم.. كيف يعيشون كيف يديرون حياتهم كيف يقضون ساعات الليل والنهار, الله أعلم بحالهم؟
في الأيام الأولى كان هناك من يسأل ويتقصى ويجتهد بحثا عن شيء مفيد، عن أمر ما لا يعرفه حقيقة ولكن الجميع كان يسأل ويتفقد من يعرفهم ومن يلتقي بهم .. يسألهم عن نصيحة أو مشورة أو خبر, هذا هو اليمن..
مرت الأيام وبدأ السؤال يغيب ويتوارى بين أكوام الهموم التي تراكمت وما عاد أحد يستطيع أو يجرأ أن يقول أنا لها أو أن أمرها هين وأستطيع أن أحملها وأتجاوز المحنة دون أن أتعثر.
نسي الإنسان اليمني حتى تفاصيل حياته السابقة, وكيف كان يقضي ساعات نهاره, نسي أن يتفقد أقاربه ومعاريفه عند حدوث غارة في هذا الحي أو هذه المحافظة, فقد الرغبة في تتبع الحدث والسؤال عن من قضى ومن أصيب, نسي السؤال عن عدد الغارات وأين حدثت وما سببته, فقد الفضول في إحصاء القتلى وعدد الأيام التي انقضت وهو تحت نيران مقاتلات العدو! هذا هو اليمن.
فقد الاهتمام بمراسيم العزاء وبالعادات التي توارثها كابرا عن كابر.. نسى الأحلام والتطلعات وغابت طموحات الشباب وتنازل الأطفال عن حقهم في التدليل وشوقهم للعب خارج المنزل مع رفاقهم, هذا هو اليمن.
تعلم الجميع مفردات المقاتلين وأسماء الأسلحة, وقادة الجبهات وأسماء الأعداء, انتهت أسئلتهم الفضولية وبدأوا يزاحمون الكبار في الإجابة على أي تساؤل, تبدلت رغبات من كان يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو معلماً أو أو… الخ.
أصبحت رغبة الانتقام والثأر هي الهاجس لدى الصغير قبل الكبير, وتبدل الحلم بالحصول على الشهادة الغالية في هذا التخصص أو ذاك إلى الحلم بالحصول على السلاح الفلاني.. هذه هي اليمن.
ثلاثة أجيال تبدلت أولوياتها وخدرت طموحاتها وتوارت أحلامها وصار هاجسها كيف تتخطى المحنة, ليس لتستريح ولكن لتستعد لرد الجميل لمن انتهك أعز وأخص خصوصياتهم دون رحمة, بوحشية فاقت وحشية الغاب .. اليوم يدفنون أحزانهم مع كل روح تزهق كي يحيوها غداً لتشهد على رد الجميل.
هل سيعود الناس إلى حياتهم حين تصمت المدافع وتغيب دوي الانفجارات وصفارات الإسعاف وتراتيل الدفن هكذا ببساطة؟ هل سينسون الآلام والجراح؟ هل سيمحون أسماء من دفنوا من عقولهم؟ ربما يتناسون كل ذلك إلى حين ولكن لا يمكنهم محو كل تلك المشاهد والحالات التي عاشها صغيرهم والكبير, وستظل تلك الصور معشعشة في ظلمة هذه الجماجم التي صدمها هذا العالم المتوحش ودفن في تجاويفها كل معاني المحبة والتسامح والإخاء.
هل ما زل لديك سؤال عن اليمن.