علي بن محمد الفران –
إذا كان الوقف في المجتمع الإسلامي قد بدأ بداية محدودة من حيث عدد الواقفين وعدد الموقوف عليهم -أو المستفيدين من الوقف- وكذلك من حيث القيمة الاقتصادية للأعيان الموقوفة¡ التي اقتصرت على قليل من المباني والأراضي وآبار المياه وبعض المنقولات التي أجاز الفقهاء وقفها¡ وكان ذلك طبيعيا◌ٍ في المراحل الأولى لنشأة نظام الوقف خلال العهد النبوي¡ وعهد الخلفاء الراشدين¡ فإنه ومع اتساع حركة الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى مشرق الوطن العربي ومغربه كثرت الأوقاف واتسعت دائرتها الاجتماعية¡ وارتفعت قيمة أصولها الاقتصادية خلال العصر الأموي¡ وزادت كثرة وقيمة في العصر العباسي¡ وزادت رغبة الناس فيها ولم يعد الوقف مختصا◌ٍ بالفقراء والمساكين¡ وإنما توسعت رقعته ليشمل دور العلم والعناية بها وبالعاملين فيها¡ وإنشاء المساجد والملاجئ والمكتبات وغيرها.
كما شهدت الأوقاف طفرة في نموها الكمي والنوعي خلال العصرين المملوكي والعثماني¡ (حتى كاد الوقف يستغرق أراضي البلدة العربية) وأضحى يشكل قسما◌ٍ كبيرا◌ٍ جدا◌ٍ من الأراضي والمباني والثروات في أرجاء الدولة العثمانية وولاياتها العربية¡ وهناك تقديرات تشير إلى أن نسبة تتراوح بين 30 و 50% من الممتلكات العقارية غير المنقولة ( من المباني والأراضي الزراعية) في البلدان العربية كانت قد صارت ضمن دائرة الوقف في ظل الحكم العثماني¡ وعلى وجه التقريب عند مشارف القرن الثالث عشر الهجري ( التاسع عشر الميلادي)(1).
أما خلال القرن العشرين الذي مضى وبالتحديد منتصفه الأول فقد تراءى لكثير من رجال الفكر وقادة الإصلاح وحتى قادة الثورات والانقلابات العسكرية في كثير من البلدان العربية والإسلامية – أن تاريخ نظام الوقف الإسلامي قد وصل إلى نهايته في المجتمع الإسلامي المعاصر.. وتجلى ذلك في قسوة الهجوم – النظري والتطبيقي معا◌ٍ – الذي تعرض له هذا النظام إبان تلك الحقبة¡ حتى أعفت بعض الدول عليه¡ وجعلته أثرا◌ٍ بعد عين¡ أما في بقية البلدان العربية فقد تشكلت له صورة ذهنية شديدة السلبية¡ وازور أغلب الناس عنه¡ وأصابته موجة طويلة من الانحسار¡ وتآكلت المعرفة به كما تآكلت أصوله المادية من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية والمؤسسات المدنية التي اعتمد في تمويلها على الريع المتولد من تلك الأصول(2).
ولكن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية على مدى نصف القرن الأخير أفضت مرة أخرى إلى استئناف التنقيب عن البنى الاجتماعية المؤسسية الموروثة¡ والتفتيش في إرثها التاريخي¡ سعيا◌ٍ لتجديد المعرفة بها وتحليل مكوناتها¡ وفتحا◌ٍ لباب الاجتهاد حولها¡ ووصل ما انقطع منها¡ بمنهجية معاصرة هدفها الإسهام في مواجهة تحديات الواقع ورسم صورة أفضل للمستقبل¡ وقد حظي نظام الوقف بنصيب معتبر من ذلك¡ في إطار تصاعد موجة الاهتمام العالمي بمؤسسات المجتمع المدني والعمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية¡ ولا يزال نصيب نظام الوقف في المجتمع الإسلامي يزداد بشكل ملحوظ¡ وتصديقا◌ٍ لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ( الخير فيø◌ِ¡ وفي أمتي إلى يوم القيامة). فهناك مؤشرات كثيرة على عودة أصل الوقف ومعناه الحسبي إلى التوهج من جديد.
(1) التكوين التاريخي لوظيفة الوقف للأستاذ: إبراهيم البيومي غانم منشور في مجلة المستقبل العربي العدد(274) ص92
(2) المصدر السابق.
Prev Post
Next Post