عن الموضوعية ودرس الواقعية
بقلم: رياض حمادي
بقلم: رياض حمادي –
الكتابة النقدية تحتاج إلى الموضوعية وهذا درس لا يمكن أخذه في دورة تدريبية سريعة كدروس التنمية البشرية لأنه درس طويل وغير مرتبط بتقدم العمر ولكن بتراكم الخبرات والقراءة والمعرفة والاطلاع على مختلف أوجه النظر. والموضوعية تعني القدرة على الحكم من مسافة يكون فيها الناقد قريبا من الجميع دون الانحياز إلى طرف ودون تغليب للعواطف أوالمشاعر.
والبعد من الجميع والقرب منهم في نفس الوقت ليس بعدا أو قربا مكانيا بل نفسيا وعاطفيا فالموضوعية هي بـ”التعريف” تفعيل العقل والاستناد للوقائع والأدلة والبراهين وعدم تدخل المشاعر والعواطف عند إطلاق الأحكام. كما قد تعني الكف عن الحكم عند الجهل بملابسات وخلفيات القضايا محل النزاع.
والموضوعية لا تعني أن يكون الحكم مرضيا لجميع الأطراف أو وسطا بينهم فالموضوعية لا تعني الحياد أو عدم الانحياز لا الإيجابي ولا السلبي. وهي عندما تحكم لصالح طرف من الأطراف لا تفعل ذلك لتحيزها لذلك الطرف على حساب الطرف الآخر وإنما من منطلق إقرار الحق بناء على الحيثيات والأدلة التي رجحت كفة طرف على آخر.
وعلى هذا تصبح عبارات من قبيل “لا يمكنني أن أكون موضوعيا وأنا أرى الضحايا مخضبين بالدماء فلا يمكنني إلا أن أنحاز إلى قضايا الأبرياء والمستضعفين”. إنه لغو فارغ وإنشاء سقيم لخلوها من المعنى والجهل بمفهوم الموضوعية. والسبب أن الموضوعية في سياق إعلان المشاعر وتدخل العاطفة تقتضي الانحياز لصالح الضحايا بشكل عام ومطلق من قبل الإنسانية قاطبة. والموضوعية في سياق جرائم الإبادة الجماعية والمذابح تكون الأدلة فيها واضحة ويصعب إخفاؤها ولذلك تختلف عن جرائم القتل الفردية. مع ذلك فالموضوعية في سياق إطلاق الأحكام من قبل القضاة الذين يفصلون في النزاعات الدولية تحتاج إلى براهين وأدلة قوية للحكم لصالح الضحايا وإلا فهي قد تحكم لصالح الجلاد مجبرة ليس انحيازا له وإنما لضعف القوانين التي يشرعها الجلاد نفسه ويضفي عليها الشرعية “المجتمع الدولي” نفسه!
وهنا لا تفقد الموضوعية شرفها لأنها حكمت أو احتكمت إلى قوانين دولية على الرغم من سوء سمعتها ونزاهتها. بل تفقد الموضوعية شرفها حين تنحاز لصالح المجرم في ظل توفر أدلة وبراهين قوية تدينه. وفي هذه الحالة تكون صفة “منحاز” أكثر التصاقا بالقضاة وهي حالة أصبحت طبيعية نتيجة الازدواجية الوظيفية للمجرم والقاضي في نفس الوقت.
الموضوعية قد تقترف مزيدا من الجرائم في حق الضحايا وهذا ليس لخلل فيها وإنما للقوانين والمؤسسات الدولية التي “فصلها” الأقوياء على مقاساتهم. وحتى يحين الوقت لحلول مؤسسات قانونية تقوم على قاعدة العدل والمساواة ولا يؤثر في قراراتها التمويل المالي للدول الكبرى علينا أن نعترف بدرس الواقعية. وإن لم نكن قادرين على إحلال القيم الحميدة والأخلاق القويمة لتكون معيار الحكم الذي تحتكم إليه جميع الدول.
على السياسيين الذين ليس بمقدورهم صناعة القرارات الدولية أو التحكم فيها – ألا يحاربوا طواحين الهواء باللغو الفارغ وليتركوا هذه المهمة “للأخلاقيين” والمثقفين والمفكرين والفلاسفة فعلى أيديهم يصبح “اللغو الفارغ” معقولا ومنطقيا وواجبا وبجهودهم يمكن للعالم أن يصبح أفضل.
الواقعية هي أن أعترف بالأرض التي أقف عليها من أجل أن يعترف بها الآخرون في وقت كان يمكن فيه للآخرين أن يفعلوا ذلك. والخيال الوهم أو الأحلام هي المقابل والبديل الموضوعي للواقعية. ورفض درس الواقعية يعني العيش في الخيال وعالم الأوهام والأحلام حيث كل شيء ممكن مثل أن أرفض الاعتراف بالأرض التي أقف عليها لأنها لا تمثل سوى نصف أرضي التي احتلها العدو وأعلن عنها “دولته”.
رفض درس الواقعية يعني رفض التكيف مع الواقع كما هو ومحاولة خلق واقع بديل عن طريق الانشغال بالتفكير والحلم في استعادة الأرض التي يحتلها العدو – في ظروف لا تتيح لي ذلك – أكثر من التفكير في كيفية الحفاظ على الأرض التي أقف عليها. ويمضي الزمن والعدو يقتطع كل يوم شبر من الأرض التي أقف عليها و”يسجلها” باسمه على الملأ بحجة أن هذه الأرض ليست ملكا لأحد! وهو لم يجانب الصواب إلى حد ما فقد رفضت إعلان دولتي على الأرض التي ينهبها قطعة قطعة
يبدو أن أكثر مشاكلنا وإشكالياتنا مرجعها غياب درس الواقعية عن عقلية كثير من المجتمعات العربية نخبا وجماهير. وغياب درس الواقعية يعني رفض التعامل مع الواقع كما هو ومحاولة التحايل عليه ولي عنقه وبدلا من التكيف مع متغيراته نحاول تكييفه لثوابتنا فنفشل في إيجاد حلول أو أجوبة لإشكالياته.
كيف يمكنك الدفاع عن حدود أرضك وأنت ترفض أن تسجلها في الشهر العقاري الذي لا يعترف بالحق الطبيعي وإنما بالأور