زمن اللاثقافة.. بين الواقع والقصيدة
وليد الحسام

(إنهم يخطفون اللغة .. إنهم يخطفون القصيدة)
للشاعر/ نزار قباني
عندما يتجاوز الشاعر كل انفعالاته الذاتية وتنضج لديه شعرية الوعي الجمعي نجد تحولات العالم الشعري لديه تجتاز حدود رؤاه وأخيلته التعبيرية والتصويرية ليبلغ بها عالم الإدراك المتعمق في تفاصيل الأشياء والمناهض لسلطة الواقع وتتسق لغته في أيقونات استعارية صاخبة بالرفض وثائرة ضد عبثية التراكيب المخلخلة لأنساق الحياة والمجتمع .
(إنهم يخطفون اللغة .. إنهم يخطفون القصيدة) عنوان قصيدة رائدة في الواقعية أنتجها خيال الشاعر العربي/ نزار قباني بانزياحات تصورية هادفة إلى شدö المتلقي لإدراك حالة التردي الثقافي وقمع الكلمة وتهميشها وشرود الكتابة في أربعة جدران مغلقة فجاء العنوان بإيحاء قد لايعتمد كثيرا على المعادل الموضوعي حيث تبدو العلامات البارزة له في حالة الحصار الفكري والثقافي التي يعاني منها الكتاب والشعراء في مجتمعاتهم وحدد ذلك الوضع بزمن معاصر له وذلك الحصار ناتج عن الضمير الجمعي (هم) في قوله: (إنهم) ومتمثل في آلية كبت اللغة الذي عبر عنها الشاعر بالفعل المضارع (يخطفون) ليصف حالة
الاستمرار في حصار الكلمة الحرة والكتابة المتمردة التي أداتها اللغة والقصيدة .
إن الشاعر في هذه القصيدة يقرأ الواقع الثقافي قراءة المحترف ليصف وضعه المتردي وتحولات الحياة واتجاهاتها إلى غير هدفها وشكلها وطبيعتها كما يصف حالة تهميش المثقف في هذا الزمن اللاثقافي الذي تفشى كالمرض في شرايين المجتمع حتى أصاب الأدباء والكتاب بالعقم فصار الواحد منهم عاجزا عن أن ينجب كتابة حقيقية وعاجزا عن أن يستخدم اللغة لمحاورة الواقع والتماهي مع قضاياه لما يعانيه المجتمع من ركود ثقافي وفكري .
إن أبرز أسلوب يتميز به الشاعر في هذا النص هو التكرار اللامتنهي لبعض المفردات وقد يكون في ذلك قصدية تتبني الإفصاح عن مضامين غير ملفتة كما أنه كرر الاستفهامات والنفي والأفعال الماضية والمضارعة مما تولد من ذلك إلى جانب المضمون تناغم موسيقي يحاكي الواقع ويوحي للمتلقي بإشارات صوتية بما يحدث داخل الشاعر من ضجيج عالم ال(هو) أي الوقع :
في زمن اللاكتابة .. لا أدري ماذا أكتب¿!
في زمن اللاحواء .. لا أدري كيف أحاور يديك الجميلتين ¿!
وفي زمن الحب البلاستيكي ..
لا أجد في كل لغات الدنيا جملة مفيدة
أزين بها شعركö الطري .. كصوف الكشمير .
فالأشجار ترتدي الملابس المرقطة
والقمر ..
يلبس خوذته المعدنية كل ليلة
ويقوم بدورية الحراسة ..
خلف شبابيكنا .
يبدو أن حالة الشاعر قد وصلتú به إلى أعتى حالات الإحباط واليأس فبادر إلى استهلال النص باعترافاته بعجزه عن التصرف باللغة واستحضار أفكاره لأنه يشعر أن ما سيكتبه غير ذات جدوى في ظل غياب المتلقي_حقيقي لذا بدأ قصيدته بتساؤل _ استنكاري و كانت (لا) النافية تسبق كلماته لتكشف مدى شعوره بالإحباط والحصار الذي لا يبدو موجها من طرف محدد .
إن الشاعر يبدأ نصه باتساع الفكرة لاتساع مساحتها وأثرها واتساع نتيجتها الملموسة من خلال واقع الصراع الذي يدور بين الكتابة والفكر والثقافة من جهة والواقع والطبيعة الحية التي تحيط به من جهة أخرى _ولعل هذا هو بؤرة فكرته_ مع مراعاته لشعرية المدلولات والمفردات التي تنتمي إلى حقل الكتابة والثقافة وكذا الطبيعة فاختار من مفردات الكتابةومدلولات الثقافة ( الكتابة الحوار القراءة اللغة الجملة القصيدة الأقلام الدفاتر النقد الأيدولوجيات الصحافة الأدب …..) واستحضر عناصر الواقع وفق تفاعلها في هذا الصراع وترتيب تمركزها فبدأ
بحقل (الزمن ) الذي تعتريه تقاسيم قد تكون بمثابة نقاط وفواصل تفصل بين كل قسم زمني وآخر بناء على واقع التحولات في حياة الإنسان والمجتمع ومن حقول الطبيعة والمحيط الميتافيزيقي ( حواء الأشجار الليل القمر البحر السماء
العلف الورد العالم …..) وهذه المفردات تشكل في رؤية المتلقي جسورا للعبور إلى أفق الصراع الذي يستطيع الشاعر فيه أن يجسد طرفي الصراع ويجسد الخصم المادي المعنوي في نفس الوقت المواجه للكتابة التي تكاد أن تكون مرهونة لدى سلطة عامة :
العالم يا حبيبتي .. مخفر بوليس كبير
وعلينا أن نقف في الطابور كل يوم ..
لكي نثبت .. أننا لا نقرب النساء ..
ولا نتعاطى إلا العلف والماء ..
ولا نعرف شيئا عن زرقة البحر وتركواز السماء
وأننا لا نقرأ الكتب المقدسة
وليس في بيوتنا مكتبة .. ولا دفاتر .. ولا أقلام رصاص
وأننا لا نزال .. أمواتا عند ربهم يرزقون .
تبدو خصوصية أسلوب الشاعر في هذه القصيدة ملفتة