الهوية بين الحلم والتاريخ

هشام علي

خاتمة: عدن.. خارج النص وداخله
استطاع الروائي علي المقري بمهارة فائقة وسحر بالغ أن يقودنا في سراديب وممرات متداخلة تمتلئ بروائح البخور العدني الأخاذة, وتمتلئ كذلك بالدخان المتصاعد من ذلك البخور الذي يمنع الرؤية أو يجعلها ضبابية وربما يقطع أنفاس القارئ المتعجل للنص الروائي, والقارئ المتعجل أيضا لمدينة عدن التي تفيض عن حدود جغرافيتها وتفاصيل تاريخها, عدن المدينة الصغيرة المحاصرة بين البحر والجبل المتمددة في اتجاه الصحراء هي مدينة المطلق بالمعنى الفلسفي للكلمة, عدن الأفق المفتوح الممتد بين الماء والصحراء يأتي إليها الناس من البر والبحر ليقيموا فيها, لا يكونون مجرد عابرين وهذا هو المعنى الغالب لكلمة عدن أي أقام, عاش فيها وأصبح متوحدا فيها وجزءا منها.
هذا هو التعريف الذي وضعه العارف الصوفي العائش في عدن وكاتب تجلياتها, يقول العارف: “كل واحد يمر من عدن هو عدني ولكن ليس بالضرورة أن يكون هو العدني بألف ولام التعريف العدني صفة جماعية وليست احتكارا لفرد أو جماعة أو لحزب أو لقومية. فالكل هم العدني وكل عدني هو جزء من الكل”. يقترب العارف في تعريفه للعدني من المطلق واللامتناهي الذي تشكله عدن من فضائها الأفقي المتعاقد مع الجيل فالعدني بأل التعريفية تعني اكتساب الهوية لأولئك الذين يعلنون حضورهم في المكان ولا يكونون مجرد عابرين مجهولين أي أنهم يؤسسون وجودهم وثقافتهم وتراثهم على أساس الانتماء لهذه المدينة التي استقبلتهم ومنحتهم حرية مطلقة.
ولم يكن تعريف ماما بعيدا عن ما ذكره العارف بل كان إضافة إليه, فالعدني هو عدن يصيرها منذ أن تلامس قدماه أو حتى هواه من بعد, ولكن صفة العدني ليست فرضا فيمكن للمرء أن لا يكون عدنيا وهو في عدن حتى وإن ولد فيها أو ولد فيها آباؤه وأجداده, ولكن كيف¿ هل هي حدود أخلاقية تمنح العدني صفة حميدة عن غيره¿ لا, تقول ماما: “حتى أولئك الذين يعتبرهم البعض سيئي الأخلاق أو خاطئين بل ومجرمين لهم الحق في حمل صفة العدني”, فعدن لا تعطي صفتها إلا لمن يطلبها ولو كان في طرف بعيد عنها وهو حين يعمل ذلك ويقول لنفسه إنه أصبح عدنيا فلا أحد يستطيع أن ينتزع منه هذه الصفة.
أضفت ماما صفة مطلقة للعدني ارتبطت بالحرية والاختيار وليس بشهادة الميلاد أو الجنسية , عدن مرتبطة بالإرادة, إرادة أن تكون عدنيا, أن تعمل لأجل ذلك حتى تمتلك هوية العدني.. كأن ماما بهذا الوصف تتحدث عن نفسها وتهب ذاتها صفة العدني, فهي جاءت من خارج المكان, كما يقول إدوارد سعيد عن نفسه لكنها اختارت عدن هوية وانتماء وارتبطت بأهل عدن فصار الجميع أهلها وأصبحت هي ماما العدنية حاملة أحلام المدينة والرائية لمستقبلها.
وفقا لهذا المفهوم للعدني أصبح ميشيل الشاب الفرنسي الذي جاء إلى عدن في زمن الحرب العالمية الثانية يحمل صفة العدني, لقد أقنعته ماما بذلك وعاش في عدن يحمل هذه الصفة إلى أن انفجر البركان العدني وضاقت عدن بأهلها, فالاستقلال لم يحمل الحرية لعدن ولم يفتحها للمطلق, الحرية المطلقة.
ضاقت عدن بأفكار ومفاهيم وأيديولوجيات السياسيين والثوريين, أصبحت لها حدود وعليها قيود وهذا ما رفضته ماما وأعلنته صارخة, فحين سأل أبو النهى ميشيل حول ما إذا كان سيغادر عدن مثل غيره من الآخرين لم يعرف ميشيل كيف يرد عليه. لكنه سمع ماما تقول عدن ليست سجنا له جدران وباب واحد عدن بحر بوابة من البحر وإلى البحر لا يمكن لأحد أن يغلقها.
ولكن ها هو ميشيل يحس أن عدن صارت سجنا أو أنها صارت في عشية الاستقلال أصغر من طبيعتها الحقيقية, مدينة كونية باتساع العالم ليس الاستعمار البريطاني هو الذي أعطاها هذه الصفة ولكن تكوينها التاريخي وطبائع أهلها هي التي جعلتها تتخذ هذه الصفات الفريدة أكبر وأهم من وطن.
خرج ميشيل مع الحشود المحتفلة بالاستقلال لكن الشعور بالفرح لم يظهر عليه, لماذا¿ تساءل ألست عدنيا¿ ألم أزل أحمل هذه الصفة مثل كل العدنيين¿ ما الذي يميز الآخرين الذين غلبوا صفة العروبة والعربي على صفة العدنية ـ العدني ـ عني¿ ألست أقدم في عدني من الكثيرين, صفة العروبة نتاج للثورة والاستقلال فهل ستلغي كل ما سبقها¿ هل كانوا سيقاومون الاستعمار ويطردون أعوانه لو كان أعطاهم الحق بأن يكونوا عدنيين¿ ألم يكونوا كذلك¿ وإذ لم يكونوا كذلك فإنهم قد غيروا صفة عدن تماما أو اعتبروها جزءا من صفات أخرى كبيرة بدت لهم بمثابة الوطن, كانت عدن بالنسبة إلي هي الصفة الأقرب صحيح أنني لم أرها وطنا كما يرونها هم لكنني رأيتها أكبر وأهم من وطن لسبب بسيط وهو أن عدن كما قلت أكثر من مرة كانت لا وطن, أو أنها كانت البديل عن الوطن.
ربما تصبح عدن ذكرى في حياة ميشيل بعد أن يغادرها بحثا عن بركان آخر لكن ليس هذا المقصود بطبيعة الحال, لقد وضع الكاتب نهاية لرحلة ميشيل وتجربته في عدن التي كا

قد يعجبك ايضا