النخب وغياب المشروع الجامع
عارف الدوش
الأزمات التي مرت وتمر بها بلادنا منذ أمد طويل ليست وليدة اليوم أو تفاعلات الحاضر فأزمات اليمن مركبة ومعقدة ومتداخلة في تفاعلاتها والسبب غياب التنمية وحضور الفوضى في مختلف جوانب الحياة كون اليمن منذ بداية القرن العشرين لم تستطع نخبها التوصل إلى مشروع وطني جامع ينقل البلاد والعباد إلى نموذج دولة بغض النظر عن ماهيتها وتوجهها ” ملكية أو جمهورية ” وإنما ظلت النخب اليمنية ملكية كانت أو جمهورية وحدودية قومية أو يسارية أممية تحلق في فضاءات هلامية عدمية أنتجت مشاريع الغلبة بعيدا عن الواقعية السياسية.
فمرة انتجت النخب السياسية اليمنية مشروعا يقوم على الغلبة والاستحواذ وهو ما رأيناه خلال مشروع الإمام يحيى الذي بدأ حكمه بالغلبة منذ أول يوم تم فيه مبايعته إماما عندما رفع الشيخ مبخوت الأحمر عصاه بإعلان مناصرة قبائل مناطق شمال الشمال ” حاشد في المقدمة ” للإمام الجديد فجيش الإمام يحيى يرحمه الله القبائل لصناعة مشروع الغلبة وأخضع مناطق اليمن بالقوة ” اليمن الأسفل وتهامة” وتوقف عند حدود ما ظل يعرف بالمملكة المتوكلية اليمنية.
ومرة ثانية انتجت النخب العسكرية بالتنسيق مع النخب المدنية مشروعا ثوريا تغييريا” ثورة 26 سبتمبر1962 ” حلق في فضاءات الحلم بمساندة مصر عبد الناصر فكان مصيره الاحتواء بعد حروب ثمان سنوات انتهت بمصالحة سميت وطنية من وجهة نظر المنتصرين بينما هي أقصت طرفا وطنيا دافع عن صنعاء ولديه مشروع وطني حالم لكنه مخالف لما اتفقت النخب القابضة على الحكم بمساندة أطراف خارجية.
ومرة ثالثة جاء مشروع وطني قادته نخبة عسكرية لم تسجه بأداة واضحة وقوية وهو مشروع ” الحمدي 74 -77 ” وعندما تم اغتيال صاحب المشروع انتهى المشروع لغياب الأداة والحامل السياسي له ورابعة جاء المشروع الهجين الذي زاوج بين القبيلة والعسكرة مشروع “صالح العسكري القبيلي” برغم إنشاء تنظيم سياسي هلامي” المؤتمر الشعبي العام ” الذي لا هو بالحزب ولا هو بالتنظيم الجامع وإنما سيطرت عليه نخب لم تستطع حمايته فأصبح التنظيم هو الشخص الحاكم والشخص الحاكم هو التنظيم .
وفي الجنوب مثلت تجربة الحكم نموذجا قويا من حيث التنظيم وإنتاج الإداة السياسية لكنها تجربة أقصت قطاعا واسعا كان يفترض أن تحتويه نظرا لإن مشروع التجربة ظل حالما ويقوم بالنقل الميكانيكي لتجارب الأخرين دون إصغاء لتفاعلات النخب والمجتمع فكانت النتيجة أن تم خنق التجربة بفعل عوامل كثيرة أولها تناقضها مع المحيط في الشمال ومنطقة الخليج وبمجرد سقوط الداعمين وتغيير المشهد السياسي العالمي تهاوى المشروع الحلم برغم محاولات تلافي الإخفاق في اللحظات الأخيرة لكن الحروب والصراعات والتناقضات وعداء الخارج القريب والبعيد كان أقوى فلم تجدö عملية المراجعة.
وجاءت الوحدة اليمنية حاملة مشروع التوحد والتنوع والتعددية السياسية في غياب الحامل السياسي والأداة الحامية والمحافظة على مشروع الوحدة فكانت أن انقضت عليها مشاريع صغيرة بمسميات كبيرة لم تستوعب الواقع فكان الإقصاء والحرب مصيرا محتوما .
وها نحن أمام أزمة مركبة سياسية اقتصادية أطلت بقرونها نحو تجنحات جديدة تتفاعل في المنطقة والسبب غياب المشروع الوطني الجامع الواقعي الذي يستند إلى تفاعلات وطنية تستفيد من الخارج لمصلحة المشروع الوطني الجامع ولا تنقل صراعاته إلى الداخل فأصبحنا قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى ما وصلت إليه بلدان أخرى في المنطقة نسير صوب حروب بالوكالة تنتج النخب من أجلها تجمعات وتكتلات تصبح نماذج دول كبرى في المنطقة
وتعبر العديد من التجمعات والتكتلات والجماعات والأحزاب عن نماذج وتوجهات قد لا تصلح لليمن يجري استنساخ تجارب غيرنا ونتجه نحو فرض تلك التجارب في الحكم والسياسية بالقوة والسلاح.
وأخيرا: عندما تصبح النخب اليمنية سياسية واقتصادية واجتماعية قادرة على إنتاج مشروع وطني جامع يستفيد من تجارب الغير ولا ينقلها بشكل ميكانيكي يمكن لليمن الخروج من عنق الزجاجة أو ” عبور المضيق ” بتعبير الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الإشتراكي اليمني مالم سنظل نرهن بلادنا وشعبنا لتجارب غيرنا وسيتوسع الصراع وستتفجر الحروب العبثية في كل فترة تحت لافتات مختلفة .