وطن يتسرب بهدوء
جميل مفرح
في مطعم تابع لأحد اكبر الفنادق في دولة عربية شقيقة طلبت صحنا من السلطة العادية وحيث أقبلت السلطة شدت انتباهي منذ أول وهلة وأول نظرة وذلك بكونها مغلفة تغليفا صناعيا محكما خلق لدي شعورا لم أدرك جيدا ما إذا كانت إيجابيا أو استغرابا سلبيا وبعد أن قمت بإزاحة الغلاف وأنا انتظر بفارع الصبر رؤية شكل السلطة التي تولي كل تلك العناية التقطت أنفي رائحة غير طبيعية تشبه التعفن مصدرها مغلف السلطة الغريب.. بسرعة البرق ناديت على الشاب الذي أحضر لي السلطة وطلبت منه الاقتراب واشتمام طبق السلطة أحرج الشاب قليلا ثم تماسك ليقول لي أستاذ أصلا هذه السلطة مستورد من بلد أوروبي لم استطع عندها التماسك ووجدت فمي ينفتح دهشة واستغرابا وأحسست قلبي يعتصر أسى وألما وأسفا وأنا أقول يا الله حتى صحن السلطة مستورد¿
كان ذلك قبل عدة سنوات وكنت لا أترك مناسبة ولا مجلسا بعدها إلا وتحدثت عن ذلك في مجرى الحديث عن خيبات الأمل المتلاحقة التي يشهدها ويعانيها الإنسان العربي في العقد الحديث ولكن تكتمل وتتنامى الحسرة ويتعاظم الألم يوما فآخر وعاما فآخر لدي منذ تلك الصدمة التي تلقيتها في تلك المناسبة وأنا أشهد الهزائم التي تلحق بإنساننا العربي بل وبالإنسان اليمني الذي لم أكن أتوقع أن يصل به الحال إلى ما وصل إليه الآن من ارتهان للتقاعس والكسل وركود على استهلاك كلما هو جاهز مستورد من ثقافة وصناعة وحياة ما أدى في مجملة إلى هذا الواقع الجامد جمود العربة الجانحة لم نعد نؤمن بقدراتنا ولا بإمكانياتنا ولا بالتحصل الذي في أيدينا وإن كان أفضل مما لدى سوانا!!
ولم نكتف بذلك وحسب بل تركنا القوى التصنيعية والتثقيفية تتوكل في متطلباتنا وخصوصية مستهلكاتنا اليومية.. فمن يتوقع أن يجد أو يرى يوما “جنبية” تصنيع صيني ومن كان يصدق أنه سيأتي يوم ويستورد اليمنيون محاصيل كالبن والعنب والمانجو والزبيب والحلبة وهي المحاصيل التي يتميز بها اليمنيون في استهلاكها وبالضرورة في انتاجها¿! من يتوقع أن يكون في قائمة المواد التي تقوم باستيرادها الفلفل والثومة والطماطم وأصناف أخرى من الخضروات والمكسرات إضافة الى المحاصيل والأغذية الأكثر أهمية واستهلاكا في حياتنا اليومية لمحاصيل الحبوب مثل القمح والشعير والعدس والفول ..و..و..و.. وغير ذلك مما لو قلت في زمن سابق أنها ضمن الأصناف المستوردة لسخر منك القاصي قبل الداني¿!
وهنا تبرز الكثير من المشكلات الاقتصادية والحيوية التي تتسلل خلسة وتدريجيا الى حياتنا وواقعنا اليومي دون أن ندرك أو نلقي بالا لمثل هذه الظواهر والمتغيرات التي توازي في خطورتها التراجع الحضاري والوجودي السلبي التراجع باتجاه تجميد الحياة وتنميطها تنميطا سلبيا رجعيا متأخرا يقوم على الارهان للوافد الجاهز والأسهل كما يبدو في ظاهره.. دون أن نعي أنها انما تعلن عن استسلام حياتي مقيت ومميت حضاريا ووجوديا واقتصاديا بكل المقاييس.. كما فعلن ارتهانا مخيفا وقريبا ما يكون مطلقا في ضرورة حياتنا لإدارة هذه الحياة في مجملها من خارج حدود وطننا.. والباعث للأسى والأسف أيضا أن كل ذلك يحدث أمام أعيننا فيما شعاراتنا وأحلامنا وطموحاتنا لا يفارقها ادعاء أننا نلهث الى إحداث التغيير والتطوير والتحسين في تنمية الوطن وموارده وقواه وامكانياته ليبدو أقرب شخص برجل يعد ببناء مدينة من ذهب وهو يحتضر ويشهد سكرات الموت.
عموما الحديث في مثل هذه الموضوعات والتوقف عند هذه المخاطر والانتكاسات يتطلب مساحات أكبر من هذا الحيز ويستدعي اهتماما رسميا ويحتاج إلى ندوات ومؤتمرات حقيقية وجادة كما تتطلب رجالا حقيقيين يحبون الوطن لذاته لا لمصلحة أو غاية شخصية أو نفعية أو سياسية فهذه الغايات لا علاقة لها اطلاقا بما يمكن أن نعده عملا وطنيا جادا وموضوعيا يخاف على هذا البلد ويراعي مصالحه وينظر إلى راهنه ليؤسس بالتالي لمستقبله.
الحقيقة التي لا يجب اخفاؤها بل من العيب والقاتل مواراتها والتغافل عنها أن ما تشهده البلاد من انهيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية أيضا وتبعث على مخاوف لا حدود لها على هذا الحيز الجغرافي الذي يحتل قلوبنا ويحتوي على مجمل همومنا وهموم لحظتنا وراهننا وأنه لمن المرعب فعلا أن نظل كيمنيين في مكان الملاحظ المتفرج بينما وطننا يتسلك ويتسرب حضارة ووجودا وحياة من بين إيدينا!!