جرعات من أجل التنمية
أ . د . محمد أحمد السعيدي
يجب أن نفخر بشعبنا الأبي فقد حافظ على أصالته وتراثه الغني بالكرم والجود والإيثار ومن لم يصدق أدعوه أن يصحبني في جولة سريعة على بيانات كتب الإحصاء الرسمية منذ بداياتها ليرى ويفتخر بشعبه المعطاء الذي لم يبخل على حكوماته المتعاقبة . بل صرف عليها الغالي والنفيس حتى صار بإمكاننا اعتبارها بمثابة ( الطفل المدلل ) أو بالأصح ( الحكومة المدللة ) والتي تحسدها حكومات العالم بأسره .
ليس هذا فحسب بل خالفنا العادة أو غريزة الأبوة فرغم أن الأب يقلل من دلاله لابنه كلما كبر سن ابنه إلا أن شعبنا المعطاء يزيد من عطائه وكرمه على الحكومة مع الزمن ولا يألوا جهدا في توفير كل وسائل الراحة لها فكلما زاد خرف الحكومات المتتالية وحتى عندما بلغت من العمر عتيا وأصيبت بالخرف والنسيان ( مرض الزهايمر ) ولم تعد تذكر أي من واجباتها نحو المواطن كان شعبنا المعطاء يدللها أكثر وأكثر ولا يبخل عليها بأي شيء . فما عليها إلا أن ترصد احتياجاتها وهو يسحب من قوته الضروري ليعطيها دونما منة أو عتاب حتى بلغ الفقر منه ما بلغ وصار أغلب السكان تحت خط الفقر وهو لا يبالي .
فبحسب البيانات المتوفرة نجد أن الإنفاق الحكومي قد شكل نسبة 11% من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في عام 1970م في الشطر الشمالي . أخذ بالتصاعد حتى بلغ 15% عام 1978م واستمر بالتصاعد حتى بلغ 43.4% في عام 1983م .
وفي الشطر الجنوبي من الوطن زادت هذه النسبة من 35% في عام 1975م بحسب المتوفر من البيانات إلى أن بلغت 58% في عام 1986م .
من فضل الوحدة علينا أن نسبة الإنفاق الحكومي هذه قد انخفضت إلى 15.9% من الناتج المحلي في عام 1990م . ولكن كما يقال ( يا فرحة ما تمت ) فقد ارتفعت هذه النسبة في عام 1998م إلى نسبة 29.8% لتواصل التصاعد الجنوني بعد ذلك حتى بلغت نسبة 43% في عام 2011م .
ورغم أن هذه النسبة مرتفعة بشكل مخيف وغير منطقي إلا أنها لا زالت مظللة وغير حقيقية أو لا تمثل الواقع . فإذا ما أزلنا أثر نصيب الشركات الأجنبية من الثروة النفطية والتي تذهب للخارج فإن الإنفاق الحكومي في بلادنا يشكل أكثر من 55% من الناتج الاجمالي .
حكوماتنا الموقرة تلتهم أكثر من نصف قوت الشعب ولا تبقي له إلا الفتات . إنه أمر محزن بل ومخز في بلد فقير مثل بلادنا وبالمقارنة مع دول أخرى نجد النسبة تتراوح بين 8% إلى 20% في بلدان العالم الثالث التي تتشابه ظروفها مع اليمن وترتفع قليلا في بعض البلدان النفطية العربية بالذات .
فإندونيسيا مثلا وهي دولة نفطية لا يزيد الانفاق الحكومي فيها عن 19% فقط . والصين الشعبية رغم أنها تنتج النفط والعديد من الموارد الطبيعية ورغم أن حكومتها اشتراكية تتحمل أعباء اجتماعية كبيرة نحو الشعب إلا أن نسبة الانفاق الحكومي إلى الناتج المحلي فيها فقط 20.8%.
وباكستان رغم أنها تنفق على تطوير الأسلحة النووية وعلى الآلات العسكرية وتعاني من ويلات الحروب والصراعات فإن النسبة لا تزيد عن 19.3% وحتى بلد متقدم جدا مثل سويسرا تتحمل الحكومة فيه أعباء اجتماعية كبيرة نحو المواطن ومع ذلك لا تزيد نسبة الانفاق الحكومي فيها عن 32% من الناتج المحلي الاجمالي .
ورغم أن حكومات الدول العربية تعد أكثر إسرافا من مثيلاتها من دول العالم إلا أنها تظل في الحدود التي يمكن قبولها .
وحتى روسيا الاتحادية رغم أنها بلد متقدم وغني بالموارد الطبيعية بما فيها النفط حيث ينتج أكثر من 12 مليون برميل باليوم وتنفق على ثاني أكبر جيش بالعالم لم تزد نسبة إنفاق حكومتها عن 34% من الناتج المحلي .
فما هو المبرر الذي يعطي الحكومة اليمنية حق اقتطاع أكثر من نصف قوت المواطن وبهذا تكون أغلى حكومة في العالم . ولكن تخيلوا حجم الكارثة لو تعلمت إدارة الشركات منا وارتفعت تكاليف الإدارة إلى أكثر من نصف دخل الشركة . إن ما تعمله حكوماتنا المتعاقبة يذكرنا بالمثل الشائع القائل ( اكلته شقاي ) . وإذا لم تنجح حكومة الثورة القادمة بتعديل هذا الوضع فأنا أنصح فخامة الأخ / عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية أن يعمل مناقصة دولية ستفضي دون شك للحصول على شركة صينية تدير البلاد بأقل من خمس هذا المبلغ بكثير .
ولأنني أعتبر نفسي أو أشعر أنني متفائل بمستقبل زاهر لبلادنا أكثر من غيري فأنا استبعد أن نلجأ لمثل هذا الخيار الغريب وخاصة بعد القرارات التقشفية الجريئة والصائبة التي أصدرها الأخ رئيس الجمهورية قبل أيام . والتي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها لا تشكل الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل فحسب بل أنها في نظري ومن خلال التقييم الاقتصادي للمراحل السا