التغير الحضاري
في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان «التكلفة الحدية صفر.. مجتمع الإنتاج شبه المجاني» الذي يدرس فيه كيف أن شبكات الإنترنت ومصادر الطاقة المتجددة والاقتصاد الاجتماعي والذكاء الاصطناعي تمثل كلها مجموعة من الظواهر التي تؤدي بمجملها إلى تغير عميق في النموذج الحضاري العالمي الراهن الذي تجسده الرأسمالية بنسختها السائدة في ظل الثورة الصناعية الكبرى على المستوى الاقتصادي العام.
وتعبير «كلفة الحدية أو الهامشية» هو تعبير اقتصادي تقني يشير إلى طريقة في حساب التكاليف المترتبة على إنتاج وحدة اقتصادية إضافية. وحسابها بالاعتماد على حجم الربح حيث لها دورها في مجال اتخاذ القرارات الاقتصادية وزيادة الإنتاج أو خفضه وهي بالتعريف أيضا تكلفة «متغيرة» تتحملها الشركات الصناعية والمجموعات العاملة في حقل الخدمات من أجل إنتاج وحدات أو سلع أو خدمات إضافية.
وبناء على تحليل «التكلفة الحدية أو الهامشية» وما يعني ببعض التعميم كلفة الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية اليوم وعلى قراءة التوجهات التكنولوجية والاجتماعية الراهنة يشرح الاقتصادي الأميركي الشهير أن الرأسمالية بنسختها المعاصرة تعاني من أزمة عميقة في ظل عصر «الثورة الرقمية» وبسبب هذه الثورة بالدرجة الأولى.
والتأكيد أن المنعطف الحاسم الذي تواجهه الراسمالية اليوم يحاكي إلى درجة كبيرة التحولات الكبرى التي عرفتها الإنسانية في مسارها الطويل. ولا يتردد المؤلف في التحذير من أن الرأسمالية التقليدية المعنية القائمة على مفهوم الإنتاج الكبير مهددة بالانقراض بسبب انتشار «الحركات ذات الطابع التعاوني» و«الإنتاج على مستوى صغير».
ثم إن شبكة الإنترنت قلصت إلى حد كبير كلفة الإنتاج وغيرت المعطيات في نمط الإنتاج الرأسمالي. المثال البليغ الذي يقدمه على ذلك هو في مجال الاتصالات. هكذا يشير إلى أن «ثلث البشر ينشرون معلوماتهم الخاصة بواسطة هواتف أو حواسيب زهيدة الثمن جزئيا ويستطيعون أن يتبادلوا المعلومات والطلبات عبر التسجيلات المصورة رقميا وبواسطة الصوت والنصوص المكتوبة وبكلفة حدية ـ هامشية تقترب من الصفر شبه مجانية».
وما أحدثته ثورة المعلوماتية على صعيد التواصل والإعلام حيث غيرت تمام أساليب العمل وأدواته والمستلزمات والخبرات المطلوبة للانخراط فيه يجد أو سيجد سريعا ما يوازيه في جميع قطاعات النشاط الاقتصادي والعام الأخرى. هنا أيضا يبدو أن انعدام التكلفة على صعيد الخدمات غزا حقول التربية والتعليم والمصارف وغيرهما من القطاعات.
ولا يتردد في القول إن المرحلة الراهنة شبيهة بتلك التي عرفها الغرب الأوروبي عند انتقاله من «نظام الرق» في ظل الإمبراطورية الرومانية إلى نظام «القنانة الإقطاعية» ثم الانتقال لاحقا من الإقطاع إلى الرأسمالية التي عرفت أوج ازدهارها وتوسع سيطرتها بفضل الثورة الصناعية الكبرى قبل نحو ثلاثة قرون.
هذه الرأسمالية التقليدية وصلت اليوم إذن إلى مرحلة مفصلية بدا فيها أنها في طور الانتقال إلى منظومة اجتماعية أخرى. ويشرح جريمي ريفكين أن مثل هذا الانتقال لن يكون «سلسا» بالضرورة. ويرى أنه من المهم جدا الاستفادة من تجارب الماضي لفهم الآليات التي يتم على أساسها التحول. ويرى ريفكين أن العالم اليوم هو بصدد ولوج مرحلة تاريخية جديدة تتميز على المستوى الاقتصادي بتغيير بنيوي عميق في الدورة الاقتصادية.
الكتاب: التكلفة الحدية صفر.. مجتمع الإنتاج شبه المجاني – تأليف: جيريمي ريقكين – الناشر: بالغراف مكميلان – نيويوك – 2014 – الصفحات:368 صفحة – القطع: المتوسط