الاختلاف الفكري (1)
د. أحمد حمود المخلافي
ينقسم الاختلاف الفكري بين الناس بحسب المجال إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: الاختلاف في المفاهيم.. الاختلاف في الأحكام.. الاختلاف في القيم..
أولا- الاختلاف في المفاهيم
المفاهيم هي أبسط الوحدات الفكرية لإدراك الأشياء.. وتلتقي معا لتشكل إطارا مفاهيميا قد تختلف باختلاف الفئات داخل المجتمع الواحد من هذه المفاهيم مثلا: التقديم والتأخير فهناك من يقدم مفهوم الحق على مفهوم الواجب.. والتداخل والتباين فمثلا: قد يتداخل حق الفرد مع حق الجماعة.. الاتساع والضيق فمثلا: حق التدين قد يتسع ليشمل أي دين.. وقد يضيق ليعني مذاهب في إطار ديانة.. التعميم والتخصيص فمثلا: حق الأبوين في التربية لأطفالهم.. قد تعمم لتشمل الأبوين بالتبني.. وقد تخصص بالأبوين الأصليين.. الإجمال والتفصيل فمثلا: حق التعليم عاما.. وإلزامية ومجانية التعليم الأساسي مفصلا.. الإطلاق والتقييد فمثلا: حق الزواج مطلق.. وزواج المسلم بمسلمة مقيد.. الذكر والحذف مثلا: حق الطفل غير الشرعي مذكور.. والسكوت عنه محذوف.
ثانيا- الاختلاف في الأحكام
تعتمد صحة الأحكام على مدى تطابقها مع الواقع.. وتختلف وجهات النظر حول واقعية الأحكام إلى حد الاختلاف والتناقض.. وبالمقارنة مع المفاهيم فقد يحصل اتفاق على مفاهيم معينة بينما يقع الاختلاف في الحكم بينهم.. ويأخذ الاختلاف أشكالا متعددة منها: الاختلاف في مضمون الحكم.. وفي دليله.. وفي نتائجه.
-1 الاختلاف في مضمون الحكم.. فقد يثبت إنسان ما ينفيه آخر.. مثلا: أن للمرأة من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات.. وقد يرى آخر بحق المساواة في التكليف والمسؤولية.
-2 الاختلاف في دليل الحكم.. مثلا: الاختلاف بين من يجعل من المساواة حقيقة لا قيد فيها ولا شرط أي مساواة كمية.. وبين من يقرها بتفاضل على أساس التقوى أي مساواة كيفية.
-3 الاختلاف في نتائج الحكم.. قد تكون منفردة أو مجتمعة.. وقد يكون بعضها ظاهرا يسهل إدراكه.. أو مستترا يصعب إدراكه.. وقد ترد في سياقات متناقضة أو مزدوجة.
ثالثا- الاختلاف في القيم
ليست الأحكام الفكرية كالعلمية (مبنية على أساس موضوعي).. بل تكون وجهة بقيم ومعايير (مبنية على أساس ذاتي) أي لا تفكر في الحدث بشكل مستقل عما ترغب أن يكون منه.. ولهذه القيم والمعايير المختلفة خلفيات اعتقادية.. خلقية.. معرفية..
-1 القيم الاعتقادية: وهي من أقوى القيم التي ترتبط بتحديد الهوية ويصعب تغييرها.. ومن أمثلتها: الأخوة.. التسامح.. قيمتان لهما مرجعية دينية متفق عليها.
-2 القيم الأخلاقية.. فيها ما هو مشترك بين الناس والعكس.. من أمثلة المشترك منها: الحرية.. العدل.. الإخاء.. الاحترام.. ومن أمثلة المختلف: التقوى.. الاستقامة.
-3 القيم المعرفية.. تتعلق بالموضوعية.. العقلانية.. الاتساق.. الاستنباط.. الاستدلال.. التعميم الخ.. وكلها ترتبط بالبحث عن الحقيقة.. ولكن لكل مذهبه في إدراك الحقيقة.. ولكل أسلوبه في تفضيل وإلزامية مجموعة من القيم المعرفية عن أخرى.. ومن أمثلة القيم المعرفية المختلف خولها: الكونية.. المجانسة.. الانتظام.. الانضباط.. الشمولية.. البساطة.. الأولوية.. الأصلية.. الموافقة.. اليقين.. النفع.. الضرر.. الضرورة.. الفطرة.
ويتفاوت مستوى وحدة هذه الاختلافات الفكرية بسبب ما يعرف بـ(التصلب الاستعلائي) أو الاستبداد الناتج عن ثلاثة عوامل هي: التعصب الفكري.. التسلط الفكري.. والإقصاء الفكري..
-1 التعصب الفكري.. وفحواه الاعتقاد أن ما يدركه شخص أو جماعة ويعقده ويريده لا يخصهم وحدهم وإنما يشمل الجميع وعليهم الالتزام به.. وتجعل المشروعية الفكرية في جانبها.. وبالتالي تنظر إلى أي اعتراض على أفكارها وأحكامها على أنه اعتداء على حقوقها وتهديد لوجودها.
-2 التسلط الفكري.. لا تكتفي جماعة ما بإبداء التطرف الفكري.. بل تسعى إلى فرضها على الآخرين.. وقهر عقولهم للانقياد لها.. وبهدف الوصول إلى تحقيق هذه الهيمنة فأنها لا تتردد في اتخاذ كل الوسائل المتاحة مشروعة كانت أو غير مشروعة.
-3 الاقصاء الفكري.. تسعى الجماعة المتعصبة والمتسلطة فكريا إلى أن تنزع عن الآخرين صفات يتميزون بها مثل: الفائدة.. المعقولية.. الابداع.. وسرعان ما تخلع عليها صفات: اللغو.. الهوى.. البدع..
وهكذا فالجماعة المستبدة بتصلب فكرها.. تتصلب كذلك أخلاقها.. فالتعصب يجعلها لا ترى الصواب إلا فيما تفكر فيه.. ولا تراه أبدا فيما يفكر فيه أحد سواها.. وبالتالي فلا شيء يحجب الحقيقة مثلما يحجبها الرأي الواحد حتى ولو كان صوابا.. لأنه يكون قد فوت على المخ