كفى انشغالا بالسياسة
جميل مفرح
من أبرز الظواهر المستجدة في بلادنا خلال الفترة الأخيرة وبالتزامن مع الأحداث والمتغيرات السياسية التي شهدتها البلاد خصوصا خلال العامين الأخيرين أو ربما جاءت كنتيجة لها ظاهرة التسييس, تسييس مطلق للحياة والوجود حتى تحولت السياسة إلى معاش يومي وزاد لكل فئات وطبقات المجتمع وحتى مجمل المستويات العمرية وكلا النوعين بشكل ملفت للانتباه ويسترعي الاهتمام والدراسة ودراسة البيئة الحاضنة لهذه الظاهرة ومدى المؤثرات والعوامل المتبادلة.. خصوصا حين نعرف أن الاهتمام بشؤون السياسة وتقلباتها وتحولاتها أمر متعلق في الغالب لدى البلدان المتقدمة بذوي المستوى العالي من التثقيف أو الممارسة وأمر يكاد يكون حصريا بهم!! إلا أنه هنا في بلادنا خالف القاعدة أو كان جزءا من النادر الذي يستوعبه الاحتمال!!
هل من المعقول أن يكون هذا الاستثناء أو هذه المخالفة نتاج إمعان في معرفة وإدراك للعمل السياسي من قبل مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية حقا¿! لو أن الأمر كذلك لكان مدعاة لأن نصف هذا المجتمع بالمجتمع المثال, وهذا الشعب بالشعب الصفوة المتميز عن سواه من شعوب العالم بل لاستطعنا أن نصنفه المجتمع اليمني الأول في التصنيف العالمي من حيث الوعي السياسي والتعامل الفاعل مع شؤون السياسة ومتغيراتها!!
ولو كان الأمر كذلك لكان علينا بل على العالم أجمع أن يعترف بأسبقية هذا المجتمع في رتب الوعي السياسي من خلال النسبة العالية والعالية جدا من السكان الذين ينشغلون بالعمل السياسي فاليمنيون خلال هذه الفترة صاروا إن لم يكن كلهم فنسبة تتجاوز التسعين في المائة أصبحوا سياسيين بالدرجة الأولى ينامون ويستيقظون على أخبار السياسة والتعامل معها, يأكلون ويشربون يعملون ويقيلون والسياسة فضاؤهم ومسرح حياتهم اليومية!!
بالطبع قد يقول قائل إن هذا أمر طبيعي وإيجابي أن ينشغل المواطنون والمجتمع برمته بالمشاكل والمتغيرات التي تجري من حولهم وفي وطنهم إلا أن ذلك برأيي مزايدة كبرى ومبالغة لا حاجة لها على الإطلاق وافتراء يعلم العالمون مدى إمعانه ويدرك المدركون نتائجه السلبية ومخاوفه التي تبعث القلق من جانب والريبة من جانب آخر!! أن ينشغل الفلاح والطالب والعامل وأن يكونوا جزءا من العمليات السياسية التي يديرها ويتحكم فيها ثلة من السياسيين الذين يحاولون تجنيد كل من وما يستطيعون من أجل خدمة أنفسهم ومصالحهم.
إن استدعاء المجتمع برمته إلى دائرة الحوار والعراك السياسي باعتقادي نوع من الفشل السياسي لدى أولئك السياسيين وإن محاولة تحويل الشعب إلى طاقة إيقاد وتحريك للعمليات السياسية لم يكن يوما ولن يكون عملا خلاقا ناجحا من ناحية ولا عملا شريفا أخلاقيا ذا مقاصد وطنية سليمة أو إيجابية على الإطلاق.. وهؤلاء أو أولئك السياسيون يدركون ذلك حق الإدراك ويعرفون جيدا معنى أن استجلاب كل فرد من المجتمع إلى التفاعل مع الشأن السياسي وإن كان ذلك على حساب ما يهمهم ويعنيهم من مشاغل الحياة المتعلقة بهم بشكل مباشر.
هناك – ونتذكر ذلك جيدا – من السياسيين من ذهب إلى أفراد الشعب إلى مساحاتهم الشخصية والمجتمعية الضيقة ليكونوا جزءا من عمل سياسي كان يعمل عليه ويريد تحقيق سطوته على الواقع هناك من ذهب إلى المعلم إلى قاعة الدرس وأقنعه أن مشاركته في العمل السياسي أهم مما يقوم به وفعل ذلك مع المزارع والعامل والطالب بل وزاد على ذلك أن وعده بتحقيق كل أحلامه ومشاريعه الشخصية!! هناك من استغل وما يزال يستغل القوى الشعبية والسكانية تحت شعار العمل الوطني أحيانا والثوري أحيانا أخرى ليحقق مكسبا سياسيا معينا فحسب ثم ماذا¿! لا شيء سوى أن تلك القوى السكانية والشعبية تحولت من همومها البسيطة إلى هموم عامة هموم سياسية لم يكن ولن يكون له فيها لا ناقة ولا جمل إلا ما فاته من خسائر وتعطيل لحياته وحياة غيره من حوله!!
وبذلك وجدنا أنفسنا جميعا كشعب ناظل لأكثر من ثلاثة أعوام ونحن في حالة ترقب للتحول والتبدل الذي وعدنا به انشغلنا به عن كل شيء حتى أنفسنا وفي الأخير وجدنا أننا منينا بالخسارة بل بالخسارات المتوالية حياتنا ووقتنا أعمالنا ومشاريعنا الشخصية ثم أيضا خسارة ذلك الحلم الذي جرنا به السياسيون من رغباتنا وأحلامنا الوردية المقتولة!!
عموما ما أود الإشارة إليه والتحذير منه في الوقت الراهن استدراك ما أمكن استدراكه من فاعلية المجتمع والفرد من خلال إيضاح أن العمل السياسي الحقيقي لن يتحقق فعلا ولن يحقق نجاحا ما لم يكن كل منا في موقعه يؤدي ما عليه من واجب في ميدان اختصاصه الحياتي والعملي والوظيفي والتنبه بكون ما يعيشه كامل المجتمع من ترقب سلبي للسياسة وشؤونها والانشغال بها عن ال