مكتبة في سفح جبل نقم (1-2)
هشام علي

هشام علي –
ضاقت الشقة التي أسكنها بما فيها من كتب ومجلات وصحف وأوراق فالغرفة التي اخترتها لتكون مكتبة وكانت أوسع غرفة في البيت لم تعد تتسع لما تراكم فيها من كتب رغم المحاولات المتكررة للترتيب وإعادة الترتيب. وقد بلغ الأمر إلى حد وضع الكتب في صناديق أو كراتين كبيرة وإغلاقها إلى حين ميسرة وربما لا يأتي ذلك الحين ولكني أؤمن أن مع العسر يسرا وأن زمنا قادما سوف تخرج فيه الكتب من مخابئها وتحتل واجهات غرفة واسعة في البيت تكون بحق مكتبة ليست مخزنا للكتب المكدسة.
وفي انتظار ذلك الفرج الآتي قدرت أن أنقل مكتبتي إلى مكان آخر كنت أحلم بشقة أخرى صغيرة لكنه حلم لم يتحقق نظرا لصعوبة دفع إيجار شقتين قد تكلفان أكثر من نصف المرتب وقد وصلت بعد طول بحث وعناء إلى غرفة صغيرة عند سفح جبل نقم كان إيجارها مناسبا وقد راعيت إلا تكون في مجرى السيول الهابطة من أعلى الجبل حتى لا تأخذ في طريقها الكتب التي جمعتها طوال العمر منذ أول حرف وأول تجربة في القراءة ورغم هذه الاحتياطات في الاختيار فإن الأمر لا يخلو من مجازفة فالسيول في اليمن مثل كل شيء فيها لا تخضع لأي قانون ولا تلتزم بأي مسار إذ غالبا ما تحطم الوديان السدود وتقفز خارج خارطة الطريق التي رسمتها في مرات سابقة تشن نفسها طريقا آخر وغالبا ما تأخذ في ثورة التغيير هذه قرى وبيوتا وتقتلع أشجارا وتغرق حقولا ووديان هذه هي الطبيعة اليمنية جارفة طاردة في جميع حالاتها ولذا لم أجد أمامي اختيارا آخر فلا بد مما ليس منه بد. لقد ضاقت بنا الشقة وبالكتب أيضا ولا بد لأي منا أن يغادر المكان.
ضاق المكان وضاقت الرؤيا والمخيلة لم تعد فسحة الصوفي العربي” النفري” قادرة على اختراق ذلك الحيز الضيق في المكان وفي المخيلة لم تعد الرؤيا تتسع إذا
ضاقت العبارة على نحو ما كان يقول النفري في صوفيته الافتراضية فالشقة صغيرة وضيقة مثل ” علبة الكبريت” هكذا يصف رولان بارت, الناقد البنيوي الشهيري, نظام الشقق الحديثة في باريس كيف يكون الحالة في شقة صغيرة في أطراف صنعاء!!
ربما تكون علبة كبريت أيضا ولكن كبريت مشتعل إن ضيق المكان يورث ضيقا في النفس وعسرا في العيش. وغالبا ما تكون غرفة المكتبة مصدرا للقلق ومبعثا لضيق الحلية والحال!
هكذا أخذت قرارا صعبا في هذه الأزمنة الصعبة تخرج المكتبة من البيت, بعد أن كانت ركنا أساسيا في بنيانه, قرار صعب لكنه ليس استثنائيان نحن في زمن ملتبس وغرائبي أصبح ماهو استثنائي موازيا للقاعدة ومنافسا لها, حسب ما يظهر في دائرة الطباشير.
لم يكن تنفيذ هذا القرار هينا لقد احتاج إلى وقت طويل من التفكير والتأمل والمعاناة كنت أدخل غرفة المكتبة أو ما كانت مكتبة في كل مساء لم تعد مكتبة بل هي مخزن مكتظ بالكتب المتراكمة والكراتين المكدسة والملفات المتناثرة في كل انحاء الغرفة الفوض البارزة من كل زوايا الغرفة مخترقة النظام المتراجع إلى الخلف حيث تظهر ملامح رفوف متهالكة امتلأت بالكتب وفاضت حتى قذفتها إلى أرضية الغرفة هكذا تراكمت أبراج من الكتب وأهرام من الملفات والأوراق لم تترك أية ممرات بينها وأصبح البحث عن الكتب أو مجلة يحتاج إلى لاعب أكروبات ماهر يجيد القفز والحركة فوق تلك الكتب المتراكمة.
هذه الفوضى غير الخلاقة بطبيعة الحال أقنعتني بضرورة خروج المكتبة من البيت على موعد آخر للقائها وإعادة ترتيبها في مكان أجمل وفي زمن أجمل زمن يستعيد فيه الكتاب بهاءه ويحتل الصدارة في البيت.
بدأت الإجراءات العملية لنقل الكتب بعد أن استأجرت تلك الغرفة القابعة في سفح الجبل وبعد أن أقنعت نفسي وأقنعت كتبي أيضا بأنها مرحلة انتقالية مؤقتة ومزمنة لقد أصبحنا نعيش في مرحلة انتقالية ومزمنة المجتمع والدولة والحكومة والناس مكتبتي أيضا ينبغي أن تعيش المرحلة وتخوض التجربة . الكتب هي حافظة تاريخ المجتمع فليكن إذن! لتخرج الكتب من المكتبة والمخزن بحثا عن الأفضل والأجمل ولا بأس من انتظار ذلك الآتي المحمل بالبشارة ولكن المهم أن يأتي حتى لا يكون انتظار الجودو الذي يأتي ولا يأتي كما في مسرحية بيكيت ” في انتظار جودو” العشية.
ليس ثمة داع لليأس أو العبث يجب على هذه الكتب المتراكمة منذ أكثر من ثلاثين عاما أن ترحل ولكن لماذا¿
إن المكتبة لا تخضع لنظام الإزاحة والتغيير وعادة ما تستدعي الرفوف الفارغة مزيدا من الكتب كل مكتبة هي كيان ناقص مشروع لم يكتمل وربما أنه لا يكتمل أبدا “ألم يكن حلم بورخيس الكاتب الأرجنتيني الأعمى حسب رواية البرتو ما نفريل” أنشأ مكتبة لا متناهية لكل الكتب المحتمل وجودها حاول أن يجمع انسيدكلو بيديا كونية مكتملة حيث لا شيء في العالم سيكون مقصيا عنها في النهاية فشل في مسعاه لكن ليس بشكل كلي في المساء الذي تخلى فيه عن مشروعه العظيم استأجر حصانا وعربة صغيرة بمقعد واحد وقام