فكرة ربحية ندفع ثمنها باهظا

فتحي الشرماني


 - 
يقع في تصوري أن أكثر ما أضر بمؤسسات الدولة في مجالي التعليم والصحة هو اختراع فكرة الاستثمار في هذين المجالين, حتى أصبحت حياتنا محاصرة بوجود المس

يقع في تصوري أن أكثر ما أضر بمؤسسات الدولة في مجالي التعليم والصحة هو اختراع فكرة الاستثمار في هذين المجالين, حتى أصبحت حياتنا محاصرة بوجود المستشفى الخاص والمدرسة الخاصة والجامعة الخاصة.
هذه المؤسسات الثلاث للأسف هي المسؤول الأول عن فتور النشاط في مثيلاتها الحكومية, وتسرب كثير من الكوادر, بل قد يحدث أن تواجه المؤسسات الحكومية حروبا شرسة في سبيل أن تبقى ضعيفة مترهلة لأن كثيرا من أصحاب المؤسسات الصحية والتعليمية الخاصة يدركون أن يقظة ما هو حكومي ونهضته ليست في صالحهم, وهكذا تستمر ثنائية (الحكومي والخاص) في استنزاف طاقة المجتمع وفتح آفاق جديدة للفساد والتلاعب بالقوانين والأنظمة المنظمة للعمل الصحي والتعليمي في بلادنا, فما هو حكومي يستمر في مسلسل التردي والانهيار, وما هو خاص ليس أكثر من مجرد شكل أو ديكور يغطي خواء في المضمون والمكونات, وبالتالي وصلنا إلى حالة من العدمية والكساح في الخدمة التعليمية والصحية, فلا المستشفيات والجامعات والمدارس الأهلية حققت ما هو مطلوب, ولا المستشفيات والجامعات والمدارس الحكومية نهضت من عثرتها وحققت ما تفضح به رداءة الاستثمار في المجالين الصحي والتعليمي في بلادنا.
إذا نظرت في حال المستشفيات الخاصة ستجد فوضى عارمة يصعب محاصرتها وإعادة هذه المستشفيات إلى حظيرة القانون, فليس هناك شيء يحمي المواطن أو يقف في صالحه وفي سبيل تقديم خدمة صحية يتضح من خلالها معنى أن تكون في مستشفى خاص, بل يحدث في بعض المستشفيات الخاصة أن تنسى فكرة أنها خاصة, وتنحدر بمستوى أدائها إلى ما هو أضعف من مستشفى حكومي, وفي بعض الأحيان قد تغيب كل مظاهر العناية ويغيب كل المعنيين, ما عدا مسؤولي الإيرادات فهؤلاء لا يسمح باختفائهم أبدا.
اليوم من يستطيع استئجار شقة أو اثنتين أو ثلاث يستقدم طبيبين أو ثلاثة, ثم يرفع لافتة مستشفى بأوصاف (نموذجي, تخصصي) وغيرها من الأوصاف التي لا تجرؤ أن تتصف بها مستشفيات أوروبية, فالمهم هو أن تربح فقط, وكيف تستخدم عقلك في سلب المواطنين نقودهم بأدب وهدوء.
أما في مجال التعليم الأهلي الأساسي والأهلي فالحال نفسه, فشقة أو بضع شقق سكنية بإمكانها أن تجعل منك صاحب مدرسة أهلية أو جامعة خاصة, فلا معايير علمية ولا مراعاة لمواصفات وشروط المنشأة التعليمية ومتطلبات الجودة التعليمية, فالمهم أن تكون هناك قاعات فيها كراس, وسكرتارية لاستقبال من يأتي للالتحاق, ومتحصل رسوم يفتيك بما هو مطلوب منك من المبالغ (الوثائق ليست مهمة أو يقال: أمرهن سهل).
في المدارس الأهلية يتم صرف مبالغ زهيدة يطلق عليها (رواتب للمدرسين), وهي في حقيقة الأمر ليست أكثر من بدل مواصلات, وما دامت الرواتب على هذا النحو فهذا يعني بالضرورة أنه كادر غير مؤهل, ولأنه لا يجري تأهيلهم ولا إعطاؤهم الأجر المستحق الذي يحفزهم على الإبداع تجدهم بنفسيات غير راضية ودوامهم ليس أكثر من إسقاط واجب, لتكون النتيجة: لا فرق بين المدرستين الأهلية والحكومية من حيث رداءة المخرجات, مع فارق أن المدرسة الحكومية لديها كادر ذو خبرة, ورواتب أحسن حالا من إخوانهم في المدارس الخاصة, ولا يستغرب أحد حين نقول: إن بعض المدارس الحكومية تتفوق على مدارس أهلية بارزة لأن الخبرة تصنع الفارق في كثير من الأحيان, ولولا الفساد الإداري ولولا الغش في الامتحانات لكنا أمام نتائج تعليمية صحيحة ومخرجات قابلة للتحسن.
أما في الجامعات الخاصة فحضور الكادر التدريسي لا وجود له إلا بنسب ضئيلة تلبي أقل القليل مما هو مطلوب لتجويد المنتج الأكاديمي, بل إن تدريس بعض التخصصات الإنسانية في الجامعات الأهلية تحول إلى عملية شكلية, فما على الطالب إلا أن يحضر يوم الامتحان, لاسيما أن أكثر الملتحقين من أصحاب المعدلات المتدنية, والمشغولين بأعمال أخرى ويريدون شهادات لتحسين دخولهم, وها نحن نصل إلى وضع نجد فيه الجامعات الحكومية أحسن حالا من كثير من الشقق المفروشة التي تطلق على نفسها (جامعات).
خلاصة القول: ما هو (خاص) في هذه الأيام ينبغي للجهات المعنية أن تعيد فيه النظر, فالحال يعمه الفوضى والربح غير المشروع, فهناك أخذ بلا عطاء, وشكل بلا مضمون, وجسم بلا روح, وجعجعة بلا طحين .. فهل أدركتم ذلك يا جهات الاختصاص¿ وهل بمقدوركم أن تصنعوا شيئا يجعل التعليم والصحة يسيران في الاتجاه الصحيح من أجل مستقبل هذا الوطن وطموحات جيل الغد¿!

قد يعجبك ايضا