الرواية العربية وإنجازات الطيب صالح

طاهر علوان

شهدت الساحة الثقافية والفنية العربية في الخمسينيات نهضة شاملة في كافة المستويات المتعلقة بالمجال الثقافي والفني تزامنا مع التحولات الاجتماعية والسياسية والمد التحرري في ذلك الحين. ومن البديهي أن يصاحب ذلك التحول السياسي والاجتماعي تحول في الجانب الثقافي والفني يستوعب ذلك التحول ويعبر عنه بأشكال وأنماط وقوالب أدبية فنية جديدة تتناسب مع عمق التحولات الجذرية وتأثير تلك التحولات الاجتماعية السياسية على الواقع الاجتماعي وحياة الناس اليومية. فالرواية العربية كانت نتيجة حتمية لتلك التحولات الاجتماعية السياسية تعكسها وترصد أبعادها الاجتماعية والسياسية بشكل أدبي وفني يتناسب مع تطور العصر وأدواته ووسائله الفنية الحديثة. وتعتبر الرواية بشكل عام من أرقى الفنون الأدبية عمقا واتساعا لما يحتوي معمارها الفني من تنوع وتعدد في أساليب التعبير من شعر وقصة ودراما إضافة إلى أهمية الرواية في الجانب الاجتماعي من حيث استيعاب المجتمع بكل تناقضاته وطوائفه السياسية وإعطاء تصور متكامل عن ذات المجتمع حاضره وماضيه والتنبؤ باتجاهاته المستقبلية معبرة عن طموحاته وأشواقه وضميره الإنساني مع قابلية الرواية للتحويل إلى الفنون الجماهيرية الأخرى كالسينما والتلفزيون.
يقول البيريس عن أهمية ودور الرواية:
“إن الرواية لتقوم بدور الكاهن المعرف والمشرف السياسي وخادمة أطفال وصحفي الوقائع اليومية والرائد ومعلم الفلسفة السرية وهي تقوم بهذه الأدوار كلها في فن عالمي يهدف إلى أن يحل محل الفنون الأدبية ويمكن أن يكون في أيامنا شكلا معمما للثقافة”.
ومن المعروف والمتفق عليه أن الرواية فن أوروبي النشأة بدأت ملامحه في التشكل منذ القرن الثاني عشر واكتملت في القرن الثامن عشر ثم بلغت الرواية ازدهارها في القرن التاسع عشر الذي قدم أعظم الأعمال الروائية العالمية. وجاء القرن العشرون ليثري المعمار الروائي بأشكال وأساليب جديدة زادت من تعمقها في الضمير الإنساني وتوثيقها للمجتمع وتباشيرها المؤثرة في المستقبل الإنساني.
أما الرواية العربية فهي حديث نشأ في أحضان الرواية الغربية وانضم إلى فنون الأدب العربي مع بدايات الاتصال بالحضارة الأوروبية وانتقل إلينا في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي طلائع المثقفين العرب الذين تعرفوا على الثقافة الأوروبية والرواية الأوروبية الحديثة ونقلوا إلى العربية بعض الروايات الأوروبية وصاغوا بعض أعمالهم صياغة روائية مثل ترجمات رفاعة الطهطاوي وسليم البستاني.
كما لعبت الحملة الفرنسية على مصر دورا مهما في هذا المضمار وهو الجانب المضيء والمشرق للحملة فقد نقلت الحملة الفرنسية معها أسباب ووسائل التحديث في مجالات عدة من ضمنها مجال الأدب والفن غير أن الرواية العربية لم تلبث أن تقدمت على أيدي الأجيال التالية من الروائيين العرب صوب تعريب موضوعها فتخلصت من تأثير المضامين الغربية والقيم الغربية مع ظهور التحديات والمقاومة الوطنية وحركات الاستقلال حيث ظهر الميلاد الفني للرواية على أيدي الرعيل الأول من الروائيين العرب أمثال: محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم ويحيى حقي ويوسف عواد وشكيب الجابري وكرم ملحم وسليمان فياض. ويعتبر جيل الأربعينيات والخمسينيات صانع مجد الرواية العربية حيث بلغت الرواية أوج مجدها على أيدي أبناء الجيل الثاني من الروائيين العرب أمثال: نجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار وعبدالحليم عبدالله وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وفتحي غانم وحنا مينه.
ولعل جيل الستينيات الذي امتد إبداعه الروائي حتى السبعينيات والثمانينات هو الذي أكسب الرواية العربية الحداثة والعمق والرصانة جيل غسان كنفاني وعبدالكريم غلاب وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد والطيب صالح.
برغم أن الأخير لم يكتب طيلة الثلاثين عاما من ظهوره في الساحة الأدبية العربية سوى خمس روايات: موسم الهجرة إلى الشمال عرس الزين ضوء البيت بندر شاه مريود.
ومجموعة قصصية واحدة هي “دومة ود حامد” إلا أن الطيب صالح استطاع أن يحتل بأعماله الأدبية تلك موقعا مرموقا على الخارطة الروائية العربية بل والعالمية كذلك فقد كان ظهور رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” في منتصف الستينيات من هذا القرن أشبه بالحدث الثقافي العربي الذي شغل الأوساط الأدبية لسنوات طويلة حتى أن ما كتب عن هذه الرواية يفوق حجمها الذي لا يتجاوز المائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط مرات ومرات .. وقد تعددت الآراء في خصوصية هذا العمل الإبداعي الهام.. هل هو في الشكل الجديد الذي أضافه الطيب صالح إلى الرواية العربية في الستينيات أم هو في الموضوع الإشكالي – الحضاري المثير الذي يتناول قضية العلاقة بين الأنا والذات الاجتماعية بمكوناتها وتراثها وتقاليدها الاجتماعية من جهة والعلاقة بين الأنا

قد يعجبك ايضا