الخنبشي في سفر آخر الليل

محمد الغربي عمران

«كعادته كل فجر يودعها قبل خروجه من المنزل, يوصيها بالأولاد,فهو نادر ما يحضر إلى المنزل قبل موعد إستيقاضهم. يوصيها بالا تدع خالصة تنام …» الخ
هي الكلمات الأولى من رواية الأديب العماني يعقوب الخنبشي .. بداية فخ وقد نصبه بعناية لإغواء القارئ . ذاهبا به طوال الرواية بعيدا بعيدا.
لا أتذكر رواية تدور أحداثها دون أن تفصح عن مفاتيحها طوال صفحاتها حتى النهاية , قد تكون تلك الروايات قليلة وخاصة العربية, رواية الخنبشي الصغير تسير بالقارئ بعيدا بعيدا لتهب توقعاته في غير مكانها وهو يستنتج أجوبه لما يحدث, متاهة ليست متشعبة بل محاكة في خط مستقيم وحتى النهاية, وحينها يكتشف القارئ أن تلك الجمل القصيرة التي أبتدر بها الكاتب عمله القصير -ثمانون صفحة- تحمل الإجابات لكل أسئلة تكاثرت في وعي القارئ أثناء سيره في ذلك السرد المستقيم.
ولتوضيح الأمر فأن السارد (أحمد) الشخصية الرئيسة للعمل رب أسرة هو معيل أسرة تتكون من: أم وأب في حالة عجز, زوجة وثلاثة أبناء أصغرهم(خالصة ) حبيبة قلب بابا. وأخ عاطل عن العمل يقضي أوقاته في النوم.وأخت على مقاعد الدراسة .
يكابد أحمد طوال يومه ليوفر لأسرته عيشة مقبولة.. يخرج عند الفجر على سيارته الأجرة يبحث عن يصله, حتى بداية الدوام يذهب إلى الدائرة التي يعمل بها, مرتبه الصغير كفراش–درجة عمالية- ثم ينصرف مع نهاية الدوام ليبدأ بسيارته باحثا عمن يصله,وهكذا يعمل طوال الوقت وفي هوامش الوقت ,يلقط رزقه, ليعود إلى أسرته في أنصاف الليلي.
الرواية عبارة عن مشاهد ..أو بالأحرى لقطات متتالية يسير بنا الكاتب في خط تصاعدي للأحداث من بداية خروجه من منزله عند الفجر ونحن نكاد نسمعه يوصي زوجته شريفة بتلك الكلمات التي بدأنا بها هذه الصدور, ثم تطرح عليه ما يحتاجه البيت من مصاريف في ورقة»قرأها سريعا : ثوم بصل سمك طماط زيت ليمون « ثم ترفع صوتها»ولا تنسى أن حنفية المطبخ يتسرب منها الماء, كما أن بعض الأنوار معطوبة…. «الخ ما وصل إلى مسامعه من صوتها.
يتحرك بسيارته وسط عتمة بعيد الفجر وهو يحسب ما يمكن تنفيذه بعد استلامه المرتب الضئيل.. يدعو الله أن يكون يومه يوم خير وهو يفحص داخل سيارته بناظريه متمتما «لولا ما أجنيه من هذه السيارة لمات أولادي جوعا»
يمرر ناظريه عله يلمح من يطلب منه إيصاله.. ثم يستحضر ذلك الحلم الذي يرعبه كل ليلة يرى في أحلامه أطفالا دون رؤوس وقد غاصت سيقانهم في بركة موحلة بالدم.. ثم فجأة يخرجون مهرولين في نحوه .. يجري بكل قواه خوفا من تلك الكتل مبتورة الرؤوس.. ينهض من نومه فزعا ..يمسح عرقه المتصبب يذكر الله ليعود إلى نومه متوجسا.
المشهد الثاني يسير بعربته في أنحاء المدينة تجمعات هنا وهناك للعمالة الأسيوية.. عربات تحمل البرسيم وأخرى تحمل سلع وخضار تمرق في اتجاهات مختلفة.
يلمح شبح فتاة على رصيف مقابل , ترفع يدها مشيرة عليه ليتقدم نحوها, تفتح باب سيارته تجلس جواره لتمتلئ قمرة السيارة بأريج عطر قوي, مسح بناظريه تلك الملابس مكياج وجهها, خطوط النقش على ساقيها, أذهله جمالها وجرأتها في الحديث وأسلوب لبسها.
وقد وقف أمام مديره الذي طلب منه أن يأتي بأحد الموظفين(ماجد) الذي تدور الشائعات عن علاقة غير سوية بين المدير والماجد, ثم تلك البيئة التي تنبئ عن فساد في مفاصل الإدارة من خلال المحاباة في العلاوات وصرف الحوافز, المرتكزة على المصالح المتبادلة وكذلك الرغبات الحسية. في لحظات انهماكه بتلبية مشاريب القهوة للمدير وموظفي الإدارة يأتيه هاتف من طاهرة تلك الفتاة التي أوصلها عند الفجر.
المشهد الثالث وقد أضحى ضمن عالم طاهرة وصالحة الذكر الذي يضع المساحيق على وجهه والنقوش على يديه وأطرافه ويلبس الثياب التي تظهر مفاتن رشاقته ليبدو كفتاه ليل رائعة الجمال. يصلهم مع فتيات أخريات إلى مزارع واستراحات لأثريا في الضواحي , حيث العوالم السرية والفاضحة لسكان المدينة من الأثرياء حيث المشروع والممنوع يتدخلان لينسجا عوالم من المتعة والإثارة. تتجذر علاقة أحمد بطاهرة ليعيش قصة حب من طرف واحد.
المشهد الرابع وفاة أبيه وانشغاله بأيام العزاء.. أثناءها يأتي هاتف من الشرطة يدعوه ضابط لزيارتهم.. وهناك يكتشف بأن طاهرة قدمت فيه بلاغ بعد أن تبين بأنها حامل مدعية بأبوته لما في بطنها.. يطرح عليه الضابط لم القضية بعقد زواج وبموجبه ينتهي كل شيء, لكنه يرفض بقوة.. حينها يحيلون محاليل الطرفين للمختبر للتحليل.
المشهد الرابع والأخير يأتيه هاتف من نفس الضابط يخبره بأن نتيجة التحليل كانت لصالحه وأنه ليس أب لما في بطن طاهرة . فيرد عليه الشاب احمد «كنت متأكد من ذلك»
حينها يقول الضابط له «طبعا أنت متأكد فكيف يكون منك وأنت عقيم» لحظتها يقف متبلد الأحاسيس.. يسقط الهاتف من يده.. يستعيد وعيه صارخا «وأبنائي من هو »
يركب سيارته مسرعا نحو منزله.. ما أن يجد زوجته حتى يدفعها

قد يعجبك ايضا