العرضي … وركام الوطن
عبدالرحمن مراد

مقالة
لم يكن ذلك الحادث المروع والمتوحش الذي وقع في مجمع الدفاع بالعرضي وبالتحديد في المستشفى بالحادث العابر فالقضية كانت ذات أبعاد متعددة وبدا المشهد السياسي على إثرها في حالة فوضى والتباس ولف الغموض سماء المشهد.
ثمة قنوات فضائية كانت تتحدث عن حالة جهادية نوعية ستقع في هذا المكان انتقاما لمن أسمتهم بالمجاهدين الذين رفض المستشفى استقبالهم في غرف عناياته المركزة وكانت أصوات المتحدثين واضحة وتقديرية ومباشرة ويبدو أن أجهزتنا الأمنية لا تلتقط مثل تلك الإشارات والرموز التي ترسلها قنوات وصال وصفا الناطقتين باسم سلفية أعراب صحراء نجد.
ما حدث في العرضي باعثه حرب صعدة “حرب دماج” والحرب كما هي في طبيعتها وفي سياقها الزمني لا تترك إلا أثرا مدمرا في النفوس وفي مظاهر الحياة وتترك تشوها في منظومة القيم وهو الأمر الذي بدا بوضوح كامل من خلال حالات التجرد والاستغراق في التوحش إلى درجة فقدان التوازن عند الكثير من منظري تلك المنظومة سواء ما كان تعبيرا منها عن المشهد السياسي أو ما كان تعبيرا عن المشهد الثقافي والعقائدي فالذين تحدثوا عن العملية قبل حدوثها بكل ذلك الوضوح سيطرت على مفردات خطابهم مشاعر الحقد والانتقام في تجرد كامل من الأبعاد القيمية والأخلاقية غاب الله والقرآن والإسلام وغاب رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام وحضرت ثقافة الجاهلية وقيم الجاهلية وأخلاق الجاهلية والأبعاد الثقافية والاجتماعية للأعراب والصحراء ومن المستغرب حقا أن تحضر بعد أن جبها الإسلام ووضعها تحت قدميه فالثقافات التي جاء الإسلام على ركامها وأنقاضها تستعيد عافيتها وفاعليتها من بعد كل هذه القرون وحضورها دال على تداخلها في النسيج الاجتماعي وفي البناءات الثقافية وفي الوعي وهنا يمكننا القول إن تقبل الأفكار في كلياتها وكمسلمات أصبح خطرا يهدد البنية العقائدية والمنظومة القيمية ندرك ذلك بالتأمل في حالة التزامن التي حدثت بمقصدية قدرية بحتة فموت نيلسون مانديلا كان هو اللحظة الموازية لتلك اللحظة الدامية التي كانت تقتل لمجرد القتل تقتل الطفل والمرأة والشيخ المسن وتدخل غرفة العمليات لتقتل الطبيب والمريض والممرض والممرضة وكل كائن يدب أو تشعر بوجود نبض في صدره وكان التوازي بين اللحظتين من خلال ثنائية الهدم البناء وأقصد الهدم القيمي والبناء القيمي فالذين يهدمون يتحدثون باسم الله والقرآن وباسم الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام منقذ البشرية من رق العبودية ومحررها من الجبروت والموت والفناء الداعي إلى الحق والعدل والمساواة الذي جاهد جهادا مريرا حتى يساوي بين بلال الحبشي وبين سيده والمفارقة أن الذي يبني تجمعه تلك القيم برسول الإنسانية الأعظم “عليه الصلاة والسلام” فكان ألم الناس عليه يتساوى مع المهم وحزنهم على ضحايا التوحش في مستشفى العرضي.
لقد كان موت مانديلا في هذا التوقيت الذي نشهد فيه انهيارا للقيم وللمثل وللمساواة وللإنسان بمثابة يقظة السؤال القيمي والإنساني وفي صحف هي الأكثر ميلا إلى اليمين بعد أن ظل هذا السؤال الثقافي مؤجلا باعتباره على غير توافق مع الشريعة حسب اعتقادهم ذلك أن تصورهم قائم على قاعدة أن الشمول في النص المقدس أشمل وأعم والنص البشري موصوف بالنقص لتأثره بالطبيعة البشرية وكأن الطبيعة البشرية لا تتداخل في تفسير وتأويل النص المقدس وكأن كل الذي قاله السلف الأعلام غير قابل للنقاش ولم يصبه النقص ولم تخامره الطبيعة البشرية وليس من تأويل وتفسير بشر يحملون خاصية الخطأ والصواب.
دعا مانديلا إلى الحرية والمساواة بين البشر وحارب التمايز العنصري وكان أكثر ميلا إلى الحق والتعايش وأكثر رغبة في الحب والسلام لم يحمل حقدا على أبيض حين أصبح رئيسا بيده كل أدوات السلطة بعد أن اضطهده ذلك الأبيض وقيد حريته وجعله يقبع في سجنه “27 عاما” بل حمل حمائم السلام على كتفيه وبيديه حمل أغصان الزيتون وحين غادر هذا العالم فاضت عيون العالم كله بالدموع وتحركت ألسنة اليمانين باللعنات على أولئك القتلة الذين تجردوا من إنسانيتهم ومارسوا هواية الموت والهدم والدمار باسم الله وباسم رسوله “محمد” وباسم القرآن وكأني بذلك الإنسان نيلسون مانديلا قد حمل رسالة المظلومين من أهل الأرض إلى تلك الدار الأخرى وفي مضمونها ما تقوم به الجماعات التي تدعي الإسلام من قتل وما تمارسه وتدعو إليه من فتنة.
في العرضي رأينا ركام الإنسانية يتهاوى من جماعات تدعي الإسلام وفي جنوب أفريقيا رأينا كيف تشرق القيم والمبادئ والحب والسلام لكي تضيء العالم كقيم إنسانية مشتركة بين البشرية..