هرطقات موسيقية
جمال حسن
خيمت على أوروبا نهاية القرن الثامن عشر حركة فكرية تحررية نتج عنها ثورة في فرنسا وبالنسبة للموسيقى فقد سبقها مجموعة الشعراء الرومانتيكيين. انعكست بموجة غنائية تشع بالتعبير عن الذات. ساهمت البرجوازية في تشكيل بعد جديد للفن أولا أخرجته من حلبة الذائقة النخبوية المرتبطة بالطبقة الارستقراطية ثم وظفت البعد الجماهيري للفن لتوظف جانبها كسلعة. خروج الفن من الذائقة النخبوية بدا لنيتشة شكل للانحطاط الفني خصوصا في مغالاته العاطفية أو خروج عن الفن النبيل. مع ذلك تركت لنا تلك المرحلة كثيرا من الأعمال المهمة وبعض أهم الموسيقيين. ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت تيارات مضادة الانطباعية بتمردها العاصف خصوصا في التصوير ثم موسيقى الفرنسي كلود ديبوسي بهارمونيتها غير الوظيفية.
يعتبر بيتهوفن جسرا بين المرحلة الكلاسيكية والرومانسية. ومنذ سيمفونيته الثالثة (البطولة) عام 1805م انفتح الباب للتعبير عن الذات. لتخيم طيلة القرن التاسع عشر وامتدت آثارها إلى القرن العشرين. مع الرومانسيين انحسر القالب الموسيقي لمصلحة اللحن مقارنة بالكلاسيكيين. ومع الطاقة التعبيرية التي وشمت موسيقى بيتهوفن إلا أنها لم تتخل عن البناء اللحني وهي السمة التي تجعل بيتهوفن كلاسيكيا أولا. أو ما يجعله من وجهة نظر الفيلسوف النمساوي كارل بوبر موضوعيا.
ساهمت الوحدة الروحانية للكنيسة عبر قواعد التعدد الصوتي في خلق لغة موسيقية أوروبية مشتركة أو ما صار يعرف اليوم بالموسيقى الكلاسيكية. ورغم تأسسها على الغناء الكنسي الديني لكنها شهدت تطورا على الصعيد الدنيوي بصورة أكبر.
عبر الفيلسوف الألماني نيتشة عن الوحدة الأوروبية الموسيقية في نقده لموسيقى شومان الرومانسي قال بعد أن كانت موسيقى بيتهوفن حدثا أوروبيا وبصورة أكبر موسيقى موزارت تقوقعت مع شومان لتصبح المانية. وكان يوجه نقدا للاتجاهات الوطنية التي فجرتها الحركة الرومانتكية في القرن التاسع عشر. يشير نيتشة إلى قيمة الفن كحدث كبير يتجاوز الوطن. لكنها اتجاهات تلازمت مع انتشار خارطة صناعة الموسيقى وبروز موسيقيين في روسيا والتشيك والمجر وحتى في الشمال الاسكندنافي.
في كونشرتو للفيولين والاوروكسترا من أربع حركات استعاد سترافنسكي الباروك وبالتحديد يوهان سيباستيان باخ. لكن على طريقته. توطئة لعزف منفرد للفيولين ثم تتدفق الاوركسترا ببناء فخم غير أنها تتقطع مع بروز أنات عارضة على الفيولين وتظهر تلوينات على منمنمات متشظية مع عدم اكتمال التدفق المتعارض بين الاوروكسترا والفيولين. كان سترافنسكي يؤكد أن جذور موسيقاه تعود لتلك القرون ولما هو أبعد أو بصورة أكثر عمومية جذور الحداثة.
يكبح القالب اللحني المتسم بالبناء التعبير وهو ما يجعل الموسيقى ذات اللحن الواحد الأكثر قدرة على التعبير والأكثر إستساغة مقارنة بالمتعددة الألحان. والقالب ما يفضله بوبر في الموسيقى أو ما أعتبره موضوعيا لكنه أيضا ما سيتحول سبب سخطه نتيجة تحوله غاية بالنسبة لفناني الحداثة وهم يجعلونه غاية لابتكار تقنيات جديدة حيث فقد موضوعيته وأصبح ما أسماه تاريخانية أو تقدمية في الفن.
“إعادة اكتشاف باخ بعد مائة عام من موته كانت إعادة تعريف الناس على تاريخ الموسيقا في وقت كان الانشغال ينصب بصورة أساسية على ما هو معاصر” بحسب ميلان كونديرا في “الوصايا المغدورة”.
مع شونبرج بلغت الموسيقى مرحلة لم يعد بوسع أحد التقدم فيها كما يقول أدورنو. مع ذلك ظهر جيل موسيقي بدءا من بوليوز الفرنسي اشتغل على الموسيقى كجانب تقني محض. وخلقت أصواتا لا يستعذبها الجمهور لكنها أثارت إعجاب النقاد. لخصت مقولة أدورنو “تقدم في الموسيقا” البعد الذي انخرط فيه الفنانون لتقديم براءات اختراعات موسيقية.
هل لذلك صارت الموسيقى السيمفونية والكلاسيكية مجرد تاريخ تصونه دور الأوبرا وتختزنه الأقراص المدمجة وشرائط الكاسيت ويمكن الاستماع له عبر قنوات إذاعية متخصصة أو في مواقع إلكترونية لم يعد هناك اليوم أعمال مهمة يتم إنتاجها. أو أنه مزاج العصر. هل أكتفت بما تم إنتاجه¿ أو لأننا لم نعد نعرف إصدارات حديثة. هناك توجهات جديدة في الموسيقى غير السيمفونية. ربما تكرس السينما لحظات محدودة لأعمال موسيقية رفيعة. هل ذلك إحدى إشكاليات المجتمع الرأسمالي المأزق البرجوازي الذي جعل الفن سلعة يعتمد على الذائقة الشعبوية. أي قيمة الفن في رواجه الكتب الأكثر مبيعا الموسيقى المتصدرة قائمة المبيعات.