لماذا العرب دون مستوى القضية الفلسطينية؟

د.محمود الهاشمي

 

 

خاض العرب مع العدو الصهيوني ثلاث حروب هي حرب عام ١٩٤٨م- وحرب عام ١٩٦٥م وحرب عام ١٩٧٣م وجميع مدد هذه الحروب بالأيام، حيث تشتعل الساحة العربية بالتظاهرات والأناشيد والمسيرات والهتافات والأشعار التي تحرض الجيوش العربية على المزيد من القتال، ثم فجأة تنتهي الحرب، وبدلا من تحرير أرض فلسطين نفقد جزءاً من أراضينا الفلسطينية والعربية، ونعود نفاوض الصهاينة من أجل عودة ولو جزء منها.
رغم كل الهزائم التي منيت بها الجيوش العربية، لم تتوقف المقاومة الفلسطينية يوما، ووقعت بين مذبحتين الأولى مذبحة العدو الصهيوني والثانية مذبحة الدول العربية حيث تنقض على المقاومة وعلى أسرهم وتفتك بهم كلما اختلفوا معهم أو بتحريض خارجي.
العرب هم الوحيدون الذين لم يتفهموا القضية الفلسطينية رغم أنها من المفروض تعتبر قضيتهم الأولى.. ترى ما السبب؟
حين نعود إلى الإرث الثقافي والفكري والسياسي والعسكري للكتاب العرب بشأن القضية الفلسطينية، نجد أنه سفر يرقى إلى مستوى حمل سفينة، حتى أن عددا كبيرا من الكتاب والأدباء والشعراء وغيرهم اختصوا بهذا الضرب من الكتابة، فهناك شعراء عرب وفلسطينيون وأدباء وموسوعيون وإلخ..
المشكلة أن الإرث الثقافي للقضية الفلسطينية تغلب عليه الهزيمة وجلد الذات العربية، وصولا إلى الشعور أننا أمة لا تملك ان تقاتل في معارك خاسرة. إن أعذار الهزيمة عديدة وفي مقدمتها أن إسرائيل مدعومة من أمريكا ودول أوروبا، وسلاحها متقدم على سلاح العرب وأيضا خيانة الحكام العرب، فيما انخرطت الولايات المتحدة في دعم إسرائيل بكل ما تملك من مصادر القوة والقرار، كان الاتحاد السوفيتي آنذاك لا يملك ذلك الحماس تجاه القضية الفلسطينية، وكان أول من اعترف بدولة إسرائيل وظل موقفه مترددا حتى انهياره عام ١٩٩١م، وكذلك فإن الصين فيما بعد، فضّلت مصالحها الاقتصادية مع الكيان الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية وحتى مواقفها في مجلس الأمن الدولي ليست لنصرة فلسطين ولكن لتوازنات دولية لا غير..
إذن القضية الفلسطينية بقيت على مدى عمرها وصراعها مع العدو الصهيوني دون غطاء دولي، بسبب هيمنة الرواية الصهيونية على العالم وغياب رواية عربية فلسطينية. والدول العربية رغم تحررها من الاستعمار الأجنبي بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج المستعمرين الأجانب من أراضيها، فشلت في إدارة نفسها، فلم تستطع أن تنتج تجربة سياسية ناجحة، رغم أنها جربت أحزابا دينية وقومية ومحلية وعالمية وظهرت رموز وطنية وقومية ودينية، سرعان ما تحولت إلى حالة رومانسية وغابت بغياب أصحابها مثل جمال عبدالناصر وهواري بومدين وعبدالكريم قاسم وغيرهم..
لا شك أن إسرائيل ساعدت في إفشال أي تجربة سياسية ناجحة مستفيدة من تعاون دول الغرب معها.. دول الخليج لم تدخل المعترك السياسي ولم تحاول دول الغرب أو الاتحاد السوفيتي تغيير نظام الحكم فيها، سوى دعم الاتحاد السوفيتي أو الصين لحركة تحرر ظفار في عمان في ستينيات القرن الماضي، وأيضا انتهت بسبب تكالب الجيوش والتآمر عليها..
إن التكلس في الأنظمة الخليجية يصب لصالح دول الغرب، لأنه يبقي الدول مجرد عناوين دون جيوش أو أسلحة ولا إدارات أمنية، مما جعل هذه الدول دون قرار إلا وفق تطلعات الغرب، بل الاستفادة من المال والإعلام الخليجي في تدمير القضية الفلسطينية، ومن يعمل دون ذلك يكون مصيره مصير الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي بسبب مواقفه ودعمه للقضية الفلسطينية وقراره استخدام سلاح النفط عام 1973م تم اغتياله.
سهّلت هشاشة الأوضاع السياسية والاقتصادية في الدول العربية على إسرائيل أن تخترقها وأن تتدخل في صناعة حكامها، فأفرغتها من أي موقف وقرار، خاصة بعد سلسلة التطبيع الأخيرة التي شملت دولا مثل السودان والبحرين والإمارات، فباتت إسرائيل تمرق إلى المساحات العربية عبر دولة الإمارات العربية على سبيل المثال..
لقد أجملَ الكاتب والإعلامي الكويتي أحمد الجار الله، الموقف العربي الخليجي ودول التطبيع، بمقال في جريدة السياسة الكويتية قبل أسبوع من معركة طوفان الأقصى، موجهاً إلى ولي العهد السعودي عنوانه “محمد بن سلمان أعقلها وتوكل” يحث محمد بن سلمان على الذهاب للتطبيع دون تردد، ويذكره أن القضية الفلسطينية لم تعد شأنا عربياً، بل شأن فلسطيني إسرائيلي خاصة بعد اتفاقية أوسلو بين جبهة التحرير وإسرائيل عام ١٩٩٣م.
حين انطلقت معركة طوفان الأقصى في العاشر من شهر تشرين عام ٢٠٢٣م، بين المقاومة الفلسطينية حماس وبين العدو الصهيوني، تكون غزة قد دخلت في ست معارك مع جيش الاحتلال الصهيوني، كانت جميع مددها قليلة، وخسائرها أيضا، ثم تبدأ غزة بإعادة الإعمار ثانية.
بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس على قطاع غزة في يونيو 2007م، أعلنت إسرائيل في سبتمبر 2007م غزة “كيانا معاديا”، وفي أكتوبر من السنة نفسها فرضت عليها حصارا شاملا.
كانت معركة طوفان الأقصى هي الأكثر تنظيما ودقة وتحقيقاً للأهداف التي انطلقت لأجلها، وتفخر المقاومة بغزة حماس بأنها هي من نفذّتها بالتعاون مع الفصائل الأخرى بغزة.. في الأشهر الأولى للمعركة كان الخطاب العربي عاليا ومؤكدا أن المعركة رفعت القضية الفلسطينية من الرفوف وجعلتها محط أنظار العالم. إنها المرة الأولى التي جاء فيها الإسناد من محاور مقاومة أخرى في لبنان والعراق وسوريا واليمن، فكانت صدمة كبيرة للعدو الصهيوني الذي وجد نفسه يقاتل على سبع جبهات، كما يقول.
الأمة الوحيدة التي تخلفت عن دعم غزة هي أمة العرب الذين اكتفوا بأن قدموا مساعدات إنسانيه إلى أهالي غزة، وفق ما تسمح به “إسرائيل” وتعاملت دول مثل مصر والأردن مع المعركة وفقا لضغوطات الداخل والهتاف” نجنب شعبنا المعركة”..
بعد سلسلة اغتيالات لقادة المقاومة في لبنان والهجوم على المباني الدبلوماسية الإيرانية بسوريا، والتغيير الذي حدث في سوريا بتخطيط أمريكي- تركي- إسرائيلي- خليجي، سوّقَ الإعلام الخليجي والصهيوني ومعه الإعلام الغربي أن المعركة انتهت، وأن على جميع محاور المقاومة تسليم سلاحها إلى العدو الصهيوني باعتباره هو من انتصر!
منذ انطلاق الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩م تكون القضية الفلسطينية من أولويات الثورة وقياداتها، حيث تم تسليم مبنى السفارة الإسرائيلية في طهران إلى جبهة التحرير الفلسطينية واستقبل أبو عمار ياسر عرفات بطهران كرمز للشعب الفلسطيني المقاوم. رغم الظروف الصعبة التي رافقت الثورة الإسلامية في إيران، سواء على مستوى الداخل في الصراع مع بقايا النظام البائد أو الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثمان سنوات، ناهيك عن الإعلان عن مواجهة الاستكبار العالمي المتمثل بأمريكا والغرب، إلا أن إيران حافظت على موقفها الثابت في دعم القضية الفلسطينية واعتبار أن إسرائيل تمثل خطرا على الأمة ولا بد من زوالها.
لم يقف الدعم الإيراني لفلسطين في حدود الإعلام أو الدعم العام، وإنما عملت إيران على تطوير عمل المقاومة الإسلامية في لبنان واليمن ودول أخرى بالشكل الذي يؤهلها إلى أن تواجه الآلة العسكرية الصهيونية، مثلما صنعت مقاومة عقائدية ترى في الدفاع عن فلسطين واجباً دينيا وأخلاقيا وإنسانيا. لم تخف إيران دعمها للمقاومة الإسلامية ودأبت إلى استقبال كبار قادة المقاومة على أراضيها، فيما لم تخف قيادات المقاومة الإسلامية الدعم الإيراني لها وتصرح به غالبا، اما الإعلام الغربي والخليجي فيذيّل أي خبر عن فصيل للمقاومة بعبارة “المدعوم من إيران”.
لا شك تحملت إيران وزر دعمها الدائم للمقاومة عبر سلسلة طويلة من العقوبات والحصار، وفي الدخول بحروب مباشرة مع العدو الصهيوني وأمريكا، ورأت أن التنازل عن المقاومة خيانة لمبادئ وقيم الثورة الإسلامية والدفاع عن العمق الاستراتيجي للثورة. بالقدر الذي ترى فيه الدول العربية أن القضية الفلسطينية ملف معقد ويعرضها للمخاطر تراهن إيران على الزمن وترى أن إسرائيل ستزول في العشرين سنة المقبلة، وأن داعمها الأول الولايات المتحدة بدأت حضارتها بالتآكل، وعليها أن تواصل الدعم للمقاومة وإبعاد أمريكا ودول الغرب عن منطقة غرب آسيا بالتمام.
إيران غير دولة تركيا في التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث تتعامل تركيا مع هذه القضية ببراغماتية عالية وتحولها فرصة للاستفادة من الصراع الفلسطيني العربي، حيث في أوج معركة طوفان الأقصى فإن حركة التجارة التركية مع العدو الصهيوني لم تتوقف، كما تآمرت تركيا على سوريا الأسد وقادت التغيير الأخير والاتيان بشخصيات متهمة بالإرهاب بقيادة سوريا وكان أول تصريح لكبيرهم أبو محمد الجولاني “جئنا للقضاء على نفوذ إيران وحزب الله بسوريا”. وقال أيضا “لسنا في وارد حرب مع إسرائيل”، فاستطاعت إسرائيل في ظل هذه التداعيات أن تبدأ بقضم أرض الجولان من سوريا.
في وقت تخلت الدول العربية عن دعم معركة طوفان الأقصى وساهمت في قتل وتجويع أهالي غزة، وقف العالم الأبعد مع الشعب الفلسطيني في حربه العادلة ضد العدو الصهيوني، وذلك عبر التظاهرات والمسيرات وأساطيل الدعم العالمي.
فيما كان لغزة وحربها ومعاناتها، الأثر على جميع الانتخابات التي جرت في جميع بقاع الأرض، في الجانب الآخر فإن جميع القمم والمؤتمرات التي عقدتها الدول العربية عبّرت عن فشل الأمة في أن تقول كلمتها في القضية الفلسطينية، وأكبر مطلب يتردد على لسان قادتها “حل الدولتين”، وهو مطلب يمنح العدو شرعية البقاء والوجود على أرض فلسطين المغتصبة..
نختم حديثنا بأن القضية الفلسطينية مازالت أكبر من دوائر الحكم العربي ومن العقل العربي بشكل عام، ونرى ان فلسطين سيحررها العالم الواعي والمتفهم لقضية شعبها، سواء شارك العرب أو لم يشاركوا، لأنها قضية إنسانية وليست قضية الشعب العربي والفلسطيني لوحده.
– كاتب وباحث عراقي

قد يعجبك ايضا